هل استغنى أهل الدثور عن الأجور؟

0
حسن محمد عبد الله

 جاءني هذا الخاطر حينما مررت على الحديث المشهور عن شكوى فقراء المهاجرين إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم- بقولهم: ذهب أهل الدثور (الأموال) بالأجور. وفي رواية أخرى، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، بكونهم يصلّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق. 

فدلّهم الحبيب – عليه الصلاة والسلام- على ما يبلغون به مقام أهل الدثور، وذلك بأن يسبّحوا الله ويحمدوه ويكبّروه ثلاثاً وثلاثين مرة دبر كل صلاة. إلا أنّ الفقراء عادوا مرة أخرى ليرفعوا رغبتهم في اللحاق بأهل الأجور، أولئك الذين ما إن سمعوا بدرجات التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة حتى اعتمدوها، فوق ما كانوا يصلّون ويصومون ويتصدقون. عندها كانت الإجابة القاطعة من الحبيب (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

فتوارث أهل الفضل والعطاء   تلك الدرجات، كما توارثوا الكتاب المرتل، جيلاً عن جيل، إلى أن بلغ ذلك جيل ما بعد الاستقلال وما تلاه، إلى النصف الأول من العقد الأخير للقرن العشرين. 

حيث شاهدنا كيف كانت ترجمة ذلك منهم تنافساً في مجال الخير، بدءاً بالتعليم في صورة مدارس الأحفاد، لعائلة بدري، ومعها مدارس البلك وعميدها أبوزيد، ومستشفى البلك للأطفال، ومدارس محمد حسين الثانوية، وأحمد قاسم بمستشفاه، وإنبري الأمين النو في درب البر الشامل والعميق، والصدقة الجارية لوالديه، ليؤسس مستشفى النو، هذا الصرح الشامخ، الذي لعب دوراً محورياً في صمود ولاية الخرطوم أمام الزحف التتاري الجنجويدي والمسمى الدعم السريع. فكان في لحظة من اللحظات المشفى المرجعي الوحيد المعتمد والمأمون بعموم ولاية الخرطوم. فلا ندري كيف يكون الحال لو لم يكن هذا الصرح موجوداً.

كان هذا دأب أهل الدثور على عموم السودان في سعيهم لنيل رضوان الله ودعوات رسوله الأمين.

فما من مدينة ذات شأن إلا ولها منهم صرح، للتعليم، أو للصحة، أو للمياه، دعكم من المساجد ومرافق الإيواء. 

وقد كانت الدولة متحزمة وملتزمة بخدمة مواطنها، تعليماً كان ذلك أو صحة أو غيرها. فما إن ينتهي المحسن من إكمال صدقته، حتي يسلمها للدولة لتتولى الإدارة والمتابعة والتطوير. فتتولى إدارات التعليم إدارة صروحه، كما تتولى إدارات الصحة أو المياه إدارة ما يليهما عند اكتمالها على أيدي المحسنين.

إلا أن هذا الحال قد تبدل فجأة بمقدم هذا القرن الحادي والعشرين، وقد بدأت نذر هذا التحول بتسعينيات القرن العشرين، حيث بدأنا نشهد مطالبة أولياء الأمور بدفع رسوم للقبول بالمدارس، ثم رسوم للتسجيل في مطلع السنة الدراسية الجديدة، تحت مسمى المساهمة في دعم التعليم، وقد تزامن ذلك مع طلائع المدارس الخاصة، مصحوباً مع تدهور قيمة العملة، وأفول نجم المعلم، وكذلك التعليم. ليكون الحصول على الكتاب المدرسي بالقيمة، لطباعته في المطابع التجارية. وكان لصعود نجم التنافس على إحراز الدرجات التسعينية أثره في العملية التعليمية، فتكالب المقتدرون على تسجيل أطفالهم لدى المدارس الواعدة بإحراز تلك الدرجات، وقد اتجهت إدارتها نحو اختيار المعلم الذي يحقق لها ذلك، بعد أن صارت المدارس عمارات بطوابق، فكان إغراؤه بالمال الذي حرمته منه الوزارة، وفي ساعات استراحته بين الحصص. فظهرت بدعة تجميع الحصص الأسبوعية للمعلم بالمدرسة، لتكون في أيام محددة، ليتفرغ بعدها للعمل في المدارس الأخرى، فصار همّ المعلم زيادة الدخل بزيادة عدد الحصص، لا في متابعته لما بعد الحصص، لينتهي دور المعلم المربي، ويعتلي الساحة تاجر الطباشيرة، أو جهاز التسجيل.

ويتواصل السقوط عندما تختفي معاهد تدريب المعلمين، وتبرز كليات التربية وكليات الطب بأعداد الجامعات الولائية، في تنافس كبير لأهل الدثور في تأسيس المدارس والمشافي التجارية، ليصل بنا الحال اليوم إلى وجود تلاميذ وتلميذات داخل غرف الدراسة، لا تتجاوز نسبتهم ربع من هم في سنهم، ممن هم في الشوارع، وفي ذات المراحل. وما ذلك إلا لأن لوالديهم القدرة على دفع التكلفة المليارية للتعليم، والتي وضع تسعيرتها أصحاب المدارس الخاصة لمن يرغب في الالتحاق بمدارسهم .

 ويأبى رئيس الدولة ووزير المالية الالتفات إلى التعليم كما الصحة، وقد نسي كلاهما أنهما ما وصلا إلى ما هما فيه الآن لولا مجانية التعليم والعلاج. وهاهم جميعاً استغنوا عن أعظم الأجور، أجر التعليم كما العلاج.

فما أعجب أن نسعى للنهوض ومسابقة الأمم، ونحن نهدم التعليم والصحة وبإصرار ومثابرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *