

فيصل محمد صالح
كاتب صحفي
إلحاقا لما قلت من قبل، فقد مثلت عقد الجلاد فتحا جديدا في مسيرة الغناء السوداني، باعتمادها الأداء الجماعي كفرقة، ثم باعتمادها على الأداء الصوتي كاساس ثم تأتي الموسيقى، واختياراتها لنصوص ربما كانت لن تجد مجالا لأذن المستمع السوداني لولا عقد الجلاد، ثم تجارب أخرى جاءت بعدها. وانضم للفرقة حمزة سليمان وعمر بانقا وشريف شرحبيل. وغادرتها منال بدر الدين وظهرت بعدها مشكلة مزمنة في الصوت النسائي، مرت أصوات نسائية كثيرة لكنها لم تعمر طويلا، منى السيد وآمال النور وأخريات. ثم جاءت أجيال جديدة، أبو ذر والخير، شبكة، محمد عبد الجليل وهاني عابدين…وكثير غيرهم. تولى مهمة تلحين كل أغنيات عقد الجلاد في المرحلة الاولى قائد الفرقة وعرابها الموسيقار عثمان النو، ثم في مراحل لاحقة دخل حمزة سليمان مجال التلحين وكذلك شمت محمد نور صاحب الالحان المميزة. تميزت ألحان المرحلة الأولى بعبقرية عثمان النو ومعرفته بقدرات أعضاء الفرقة، وتنهض “ما ضهبت أقول لقيتك” وحدها على هذه العبقرية، ثم ألحان فرائد أخرى مثل قصيدة “احتاج دوزنة” للشاعر محمد محمود الشيخ “محمد مدني” “أحتاج دوزنة ً..وترًا جديدًا، لا يضيف إلى النشيد سوى النشاز، لغة ً تفتش عن أراض ٍ خصبةٍ، شمسًا تغير طعمَ فاكهةِ الشتاء، ..، يا بحرُ … قـُم، حرّك … تحرك أو فعد، نحو ابتدائك فالنهاياتُ البعيدة ُ لا تُحدْ، ألفظ جحيمـَـك أو فغادِر ساحليك إلى الأبدْ.” القصيدة طويلة، اختارت منها عقد الجلاد بعض المقاطع، وأدخلت فيها مقدمة من شعر أمل دنقل ” لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصرِ يموت، قيصر جديد، وخلف كل ثائر يموت، أحزان بلا جدوى ..ودمعة سدى”. ولم تتوقف الفرقة عند مدرسة شعرية بعينها أو أسماء محددة، فاختارت نصوصا متنوعة ومختلفة، جاء بعضها من خارج السودان، مثل فاروق جويدة ” في كل عام كنت ترحل يا حبيبي في دمي، وتدور ثم تدور.. ثم تعود في قلبي لتسكن شاطئيك، لكن أزهار الشتاء بخيلة، بخلت على قلبي.. كما بخلت عليك، عذرا حبيبي إن أتيت بدون أزهاري، لألقي بعض أحزاني لديك”، وأغنية “خطوة خطوة مشينا” لخليفة جمعان. سجلت الفرقة نجاحا كبيرا منذ لحظة ظهورها، كانت حفلتها الجماهيرية الاولى مفاجأة للوسط الفني، ثم توالت نجاحاتها. لم يكن للفرقة مصدر دخل غير الحفلات العامة، وبعض المشاركات في مهرجانات واحتفالات الجامعات. ارتبطت الفرقة بجيل الشباب في تلك المرحلة، وكنا من بينهم، ثم كبرنا وشابت مفارقنا، لكن ظلت الفرقة في حالة من الشباب الدائم، تودع أجيال وتستقبل أجيال جديدة. جاءت مرحلة تميزت الفرقة بألحان شمت محمد نور لبعض أشعار محجوب شريف وقدال ولاقت نجاحا كبيرا، ورغم ظهور فرق جماعية كثيرة بعد ذلك إلا أنها ربما لم تستطع أن تمسك بشفرة النجاح التي أمسكتها عقد الجلاد. في كل مرة تسمع عقد الجلاد يخطر على البال سؤال، هل كان يمكن لهذه النصوص أن تتحول لأغاني يرددها الصغير والكبير، نصوص تبدو غريبة على العالم الشعري للغناء السوداني. أٌقرأ وأسمع مثلا ..” عليك الدور، وتصريف الليالي بدور، تشيل ما شلنا من الهم، ولمَّا الدمعة ترمي الدمعه فوق دربك، روِّح يابا..وأبقي قفاكَ لا تعاين، ولا تعاين على موطاك..ولا تندم على خطواً تملِّي مشيتو ..لي قدام، وابقى العاتي..زي سنطتنا..زي صبراً، نلوك فوق مُـرٌّو، زي الزاد، لا شيتاً نزل في الجوف، ولا بيرجع، ولا بينزاد، واركز للبجيبها الريح، تقيف انتَ..ويشيلها الريح، وابقى العاتي..والدرب الوراك، مسدود، وشيل شيلتك..بقيت للنص، لا حلماً يجيب البر ولا حَـدٌّود، وانبليتَ..إنبليتَ، أَخَـتا الرمله، لا تقع المكان الهشْ، الممطوره مابتبالي من الرشْ.” الطمبارة والغناي، محمد طه القدال ثم هناك عشرات القصائد لمحجوب شريف مثل “يابا مع السلامة” و”ود باب السنط” و”تبتبا” “ونقطة ضوء” وغيرها كثير. كما تغنت عقد الجلاد لقاسم أبو زيد وهلاوي وعاطف خيري ومجدي النور وعثمان بشرى ويحي فضل الله وجمال حسن سعيد..وآخرين ومن أغنيات عاطف خيري ” الموجة سامعة النم وتطانش القمرة، والشاردة من اليم فى حضنو منكسرة، الجاى لويعلم بالفاتو فى المسرى، قدام معاك ياعم والسايقة هى الحسرة، قتلايا خوف وندم قول عندك الاسرى، اشجارى مابتفهم هاك كلم الزهرة” لم تكن عقد الجلاد مجرد فرقة غنائية، لكنها كانت مشروعا للتغيير ولإثراء حياتنا، بل أكثر من ذلك اتخذناها في تلك السنوات القاحلة مشروعا نضاليا، لم نستشر فيه الفرقة. ولا زلت أذكر أيام معرض المليون كتاب في بداية التسعينات ويد الإنقاذ الباطشة تضرب في كل اتجاه، جاءت ليلة عقد الجلاد بحشد جماهيري غير مسبوق، جلهم من الشباب، كانت هتافاتهم الغنائية تسد الافق، خرجت من أمام دار النشر مع صديق اغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول.” كنت قد فقدت الامل، لكن رؤية هؤلاء الشباب أعادت لي الامل من جديد..نحن لن نموت..!” في فترات متفاوتة ضربت الخلافات الفرقة، خرج عوض الله بشير، واستمرت الفرقة واستمرت العلاقات الاجتماعية. ثم جاء الخلاف الكبير مع عراب الفرقة عثمان النو، وقد بذل قدال مع أصدقاء آخرين جهدا كبيرا لحل الخلاف، لكنه لم ينجح. هاجر أنور لهولندا، وعمر بانقا لأمريكا، وحمزة للأمارات ثم كندا، وخرج الخير مغاضبا، ثم شمت نفسه. تغيرت الوجوه وظلت الفكرة قائمة، هذا العام تكمل عقد الجلاد 37 عاما، ولا تزال تعطي، شكرا لكل من مر عليها وأسهم فيها، وشكرا لمن أعطاها من فكره وفنه وعرقه.
شارك المقال