الرواية‭ ‬التاريخية‭ : ‬التجربة‭ ‬السودانية

59
أ. فيصل محمد صالح

فيصل محمد صالح

كاتب صحفي

فتحت مداخلات الأصدقاء من المهتمين بالرواية، كتابة ونقداً، على مؤانسة أمس عن الرواية المعرفية شهيتي لمواصلة الكتابة في الموضوع. وكنت قد أشرت أمس إلى عدد من الروايات العربية، ورواية سودانية واحدة، هي «عشق الدرويش» لحمور زيادة. ولأني أكتب بلا ترتيب، فقد تذكرت بالأمس روايات سودانية عديدة تستحق الذكر، لكن ليس لدي منها نسخ في المنفى الحالي. لهذا سأحصر حديثي في روايتين قرأتهما أيام الحرب، ثم تركتهما ورائي.

الرواية الأولى هي «رجل من دلقو» للكاتب سعيد محمد الحسن، وهي محاولة لتسريد واقعة تاريخية تتعلق بالملازم سيد فرح، أحد أبطال ثورة 1924، ورفيق عبد الفضيل الماظ في معركة النهر الشهيرة يومي 27-28 يوليو 1924 ضد القوات الإنجليزية. استشهد عبد الفضيل الماظ «فوق مدفعه كما قالت قصيدة الشاعر مبارك بشير» ومعه رفاق آخرون، وتم أسر ثلة منهم حكم على بعضهم بالإعدام، والسجن على مجموعة أخرى. وحده سيد فرح، سبح في النيل الذي يعرفه جيداً، وعبر إلى الضفة الأخرى، وفرّ من السودان إلى ليبيا ثم مصر. تأتي سيرة البطل سيد فرح لماماً، في ثنايا مذكرات أو حكايات جانبية، بينما حياته تستحق الوقوف عندها وروايتها للأجيال القادمة، وفيها كثير من الدراما والتشويق.. والمصادفات العجيبة والتنقل بين ليبيا وصعيد مصر، ثم صدور حكم العفو وإلحاقه بالجيش المصري، وانتهى به الأمر محافظاً لمرسى مطروح. حياة تستحق أن تكون أساس مسلسل تليفزيوني أو فيلم سينمائي لما فيها من وقائع، لكن قبل ذلك لأنها سيرة بطل وطني من ذهب.. يرتبط بواحدة من قصص نضالاتنا ضد الاستعمار. الأحداث والوقائع مدهشة، وقد بذل الكاتب جهده، ولا أريد أن أظلمه، لكن من وجهة نظري، كقارئ للروايات، فإن عملية الكتابة الروائية كانت تنقصها بعض تفاصيل وتكنيكات السرد الروائي، والله أعلم.

الرواية الثانية هي عمل نموذجي يمكن أن يقدم في كورسات الكتابة الإبداعية تحت عنوان «كيف تكتب رواية»، وهي رواية «فشودة» للكاتب أحمد حسب الله الحاج. تحكي الرواية، بطريقة ملحمية، سيرة حياة «علي جفون» طفل الشلك الذي تم اختطافه واسترقاقه ثم التحق بالجيش وعاش تجارب وحياة وكأنها عاشها بأكثر من عمر، وعاصر فترة الثورة المهدية وشارك فيها.. انتقل علي جفون من السودان لمصر، ثم كان جزءاً من الكتيبة السودانية التي شاركت في حرب المكسيك، وهذه قصة أخرى، ثم عاد للسودان، وبالتحديد إلى فشودة التي كانت تشهد صراعاً بين الإنجليز والفرنسيين.

يقدم الكاتب أحمد حسب الله من خلال تجربة «علي جفون»، حسب كتابة للشاعر والكاتب سيد أحمد بلال، «سردية موازية للسردية «الرسمية» لتاريخ السودان الحديث. إذ تضع الرواية شخصية أحد الأرقاء «علي جفون» في مركز السرد والبطولة، بينما تدفع بشخصيات «المهدية» إلى الوراء بعيداً عن المركز».

يبدو علي جفون شخصاً عادياً، تم استرقاقه، ثم تم تجنيده للجيش، وعاش وتنقل بالزي الرسمي بين عدة بلاد ووقائع، لكنه لم يعد عادياً من لحظة معرفة أحمد حسب الله الحاج بتفاصيل حكاياته والتعامل معه باعتباره بطلاً للرواية القادمة. ومثل كل كتاب الرواية المعرفية، في بعدها التاريخي، فقد بذل فيها الكاتب جهداً كبيراً. في جزئية الصراع على فشودة، يقول الكاتب إنه لجأ لعدد من الكتب الأجنبية التي تتحدث عن الموضوع، مثل كتاب «السباق إلى فشودة» لمؤلفه ديفيد ميرديث، و»حرب النهر» لمؤلفه وينستون تشرشل، و»الطريق إلى أم درمان» لمؤلفه جون بولوك، وغيرها من الكتب.

قلت في مقطع سابق إن الكتيبة السودانية التي شاركت في حرب المكسيك حكاية كبيرة لم نعطها الاهتمام الكافي، ولم نحاول تتبع قصتها. اهتم بها المصريون أكثر، لأنها ذهبت تحت مسمى الكتيبة المصرية، فقد كانت جزءاً من الجيش المصري، فقد روى قصتها الأمير عمر طوسون، ثم الروائية سلوى بكر في كتابها «سودان كوكو كباشي»، والروائي محمد المنسي قنديل «الكتيبة السوداء»، لكننا لم نكتب عنها شيئاً، إلا شذرات موزعة هنا وهناك. هذه مهمة تحتاج أن يقوم عليها نفر من المهتمين بالسودان. في البال روايات أخرى حاولت أيضاً رواية أحداث ووقائع من خلال السرد الروائي، وباستخدام أشراطه المعروفة، وهو أنها في الآخر رواية، تستند للواقع والتاريخ، لكنها لا تنقله كما يتوقع البعض. وقد كتبت من قبل عن رواية حامد الناظر «عينان خضراوان». وتذكرت روايتين مضى عليهما ربع قرن، ولم تجدا الصيت والانتباه الذي يليق بهما، هما «الغنيمة والإياب» و«مندوكورو: برق وهلال» وكاتبهما الدكتور مروان حامد الرشيد. كل هذه الروايات اشتعلت على خلفية أحداث حقيقية، بعضها من التاريخ القريب أو البعيد، لكنها قدمت عملاً روائياً.. كما ينبغي أن تكون الروايات.

 

شارك المادة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *