
بقلم: غادة على محمد
• سيأتي ..
لن يأتي ..
ردَّدتُ تلك العبارات بين اليأس، والخوف، والأمل. ومع كل كلمة تتنبأ بها حواسي، وتبوح بها لروحي، أنتزع واحدة من بِتلاَّت الوردة الحمراء من تويجها، والتي قطفتها لأزين بها مائدة العشاء التي أعددتها لك بحب وتفاؤل.
في تمام الساعة الثامنة مساء، وقفتُ أمام المرآة لاتأكد أن فستاني الملتف بجسدي يُظهر مفاتني، وأن شعري ينساب فوق كتفي بدلال، وأن كُحلي يجمِّل عيني، وأن شفتي مرتويتان من حُمرة الشفاه.
متسع من الوقت لا يزال أمام لحظة لقائي بك. وثمة ساعة أخرى من الزمن المحدد بيننا.
كأن عقارب الوقت، وبندول ساعة الحائط تتقاسم معي لهفة الإنتظار والشوق، والكرسي الخالي في الجهة المقابلة لي على ذات الطاولة، يتململ من ثقل الفراغ، والقدَّاحة، وعلبة التبغ، التي أهديتها لك، تحوي في داخلها سيجارة واحدة، وقد تركتها في ذات الطاولة، وذات الصالة منذ أسبوع مضى، بعد أن تشاجرنا، وخرجت قدماك من باب بيتي، تتوعدني برتابة صوتها الفراق بلا عودة ..
والآن، ينتابني شعور وكأنها تجوب أرض البيت بقلق، وتترقب عودتك بعدما أعلنا الهدنة، وفرد مساحة للصلح.
كأن الكأسين الزجاجيين، والأطباق، وأصناف الطعام، والشموع الملونة على طاولتي كلهم جميعهم يشتهون لحظة أن تطرق الباب وينتفض جسدي شوقاً ولهفة، ويندفع مسرعاً للقاءك.
سيأتي ..
لن يأتي ..
وقفت تلك العبارة بين عقلي وشفتي، مثل قطرة الدواء حينما تعجز عن شق طريقها داخل وريد مريض فارق الحياة .. والوقت يمضي ببطء ثقيل.
لن يأتي ..
لن يأتي ..
صرخ (البندول) في ساعة الحائط، معلناً أنها تمام الساعة الثانية عشرة منتصف الليل ..
لن يأتي ..
لن يأتي ..
إنها تمام الثانية عشرة، وقد بلغ الإنتظار مرحلة اليأس واليقين.
لن يأتي ..
لن يأتي ..
إنها الثانية عشرة، بعد أن فقدت روحي شهية الأمل، وبلغ الخوف محجري فانسالت دمعات الأسى والحزن على خدي، وتجمدت أطرافي ..
لن يأتي ..
لن يأتي ..
وأتت سحابة باردة، سرت في شراييني، وتوسدها قلبي.
ولكن، لعقلي قرار آخر، فهو مازال يتمسك بك. مددت يدي وحملت علبة التبغ، وأخرجت السيجارة الوحيدة التي بداخلها وأشعلتها، ثم وضعتها على حافة الطاولة أمام مقعدك الخالي ليتصاعد دخانها. أشعلتُ الشموع الملونة. ملأتُ لك كأساً من العصير البارد، ووضعتُ لك طعامك في أحد الأطباق، وتشاركته معك. ومن فرط استعجالي ثارت وانتثرت فتافيت الخبز على طاولة الطعام، وأنا أسابق دخان سيجارتك المتصاعد. وأكلتُ بنهم مجنون لأكمل عشاءنا قبل أن تنطفئ جمرة السيجارة التي توشحت بالرماد، وخبت حدة جذوتها وتقلصت، وبدأت تتلاشى حلقات دخانها السريالي.
تناولت من كأسك وكأسي رشفات العصير البارد، وتركتها تُدلف إلى جوفي، وشعرتُ بالنشوة تسري معها إلى روحي. وعند آخر حلقات دخان من سيجارتك، أنهيتُ عشاءنا، ووقفت أمد لك يدي لتحتويهما بين يديك.
سمعتُ طرقاً خفيفاً على باب بيتي، وكأنه الهذيان يُشبع روحي الجائعة للحنين، ويسخر منها. لم أبال، وتجاهلت ما سمعته. ابتسمت بشماتة على نفسي، وهممتُ بالبكاء، ولكني سمعتُ الطرق الخافت مرة أخرى على الباب. تسمَّرت قدماي، وأرهفتُ السمع، ثم أطلقت حاسة الشم لتلتصق وتتلصص على بابي المغلق، تستبين هوية الطارق، وتطرد الأمل الذي انتعش في قلبي، وتفسح الطريق لروعة الإنهزام الذي جعلني أنتصر على ذاتي. التقطت حواسي الصوت، وضوع العطر الذي يميز تواجدك في كل مكان تأتي إليه. خانتني رغبتي قبل أن تخونني قدماي. حرضتني، وأقنعتني، بأنك عندي، ولا حاجة لي لاستقبالك ..
عذراً يا عزيزي فقد كنت في غيابك أجمل، وكنت بإحساسي بقربك أصدق، وكنت في مخيلتي بكامل هندامك ورقتك مميز الحضور، فلن تخدعني حقيقة تفاصيل أخرى، ولا أرغب في طمس أمسيتي وعشائي المميز معك ..
شارك القصة