قصة قصيرة: صفوفٌ وشواربْ

31
mohmed siddig

بقلم: محمد صديق احمد

• مَدْخلْ : ( جَوِّعْ كلْبَكْ يَتْبَعُكْ) –  مَثَلْ . 

عُدتُ مساءً وأنا أُجرجر أذيال الخيبة أو كما يقول صديقي ود الماحي (عدت بخُفّي تاج السر) ؛ مُنهكاً ومُتسخاً ومُحبطاً …لثانيَ يومٍ توالياً أعود خاليَ وفاضٍ من الرغيف رغم أنّي ما تركتُ مخبزاً إلّا وقفت بِصفِّه ؛ بدءاً من المخبز الذي يجاور موقع عملي ؛ بل كنت أترجّل عن الحافلة حال رؤيتي لأي صفٍ ألْحَظه بالشارع ؛ صفوفٍ مالها عدد وقفت بها ؛ وليس ثَمّ من رغيفةٍ واحدة ؛بقدر شعوري بالضّيق والإستياء كنتُ أجدني أضحكُ بصوتٍ مسموع .

استقبلتني أسرتي بخيبةِ أملٍ أكبر من تلك التي أحملها؛ وكان الصّمت سيّد الموقف ؛ صمتٌ غار فيّ عميقاً ؛غادرتُ المنزل سريعاً وبدأت رحلةَ بحثٍ أخرى ؛ ولم تشهد رحلة بحثي هذي شيئاً يُذكر….صفوفٌ ؛ صفوفٌ ؛ صفوف ؛  ولا شيء ؛ مزيدٌ من الإنهاك والإتّساخ والإحباط …والضّحك المسموع .

– فرن الحارة 15 الآلي شغّال وصفّو ما طويل.

 جاءنا هذا الصوت الصّبِي فأنتزع شيئاً من إحباطنا ؛  كأنشودةِ خلاص ؛ تخيّلت لحظتها رغيفاً ساخناً أحضنه إلىّ ؛ هرولنا جميعنا كعدّائين في تنافسٍ محمومٍ ؛ كُنّا شيوخاً وشباباً ونساءً وفتياتٍ يافعاتْ ؛  وصلنا إلى مخبز الحارة 15 الآلي في زمنٍ قياسي وتوقيتٍ يكاد يكون واحداً ؛كانت الجموع التي أمام المخبز تتراجع وهي غاضبة ؛ همهات وأصوات تنمّ عن الغضب تتعالي ونستطيع تبيّنها ……

– الحاصل شنو يا ناس ؟

صاح أحد الشيوخ مُوجّهاً حديثه لأحد المتراجعين 

– الرغيف كِمِلْ …..أجابه الرجل دون أن يلتفت إليه.

أطلقتُ ضحكتي وتراجعتُ مع المُتراجعين ؛ عُدت أُجرجر أذيال خيبتي المعتادة ….هأنذا أعودُ خاليَ الوفاض أتهيأ لإستقبال صمتٍ منزليٍّ آتْ .

– يا حاج بابكر ؛ جاءني الصوت من وراء ظهري فألتفت لأجد جاري شيخ عمر ؛ تصافحنا ضاحكين وسرنا سويّاً في طريقنا إلى منزلينا.

– عارف يا حاج بابكر القصة دي إلا نقوم ليها قبل النَبّاه أصلو بتاعين الأفران ديل ببدوا شغلهم مِن ليل.

– قلت كَدِي ؟

– أيوه يا حاج بابكر نقوم من دُغْشَنْ بدري.

وهكذا رسمتُ وجاري شيخ عمر خطة غزو الأفران من دُغشنْ بدري.

تسللتُ خلسةً إلى المنزل ؛كان الجميع يغطّون في نومٍ عميق أو هكذا بدا  لي ؛ تمددت على سريري أُعاني أوجاعاً عديدة وجوعاً شديداً ؛ وفي ثوانٍ معدودة  أسلمتُ عينيّ للنوم ؛ أيقظني طرقٌ على الباب فنهضت مسرعاً لأجد جاري شيخ عمر ؛ وسط ظلامٍ حالكٍ إلّا من بعض الأضواء الخافتة التي تتسلل إلينا من أعمدة الإنارة بالشارع الرئيسي ؛ انطلقنا سويّاً حسب الإتّفاق…. ( دُغشن بدري) ؛ السكون يُخيّم على كل الأرجاء إلّا من نباح متقطع لكلاب الحي ؛خلا شارع منزلنا من المارّة وكذلك الشوارع التي تليه .

لم يكن توقّع شيخ عمر في محلّه ؛ فحال وصولنا إلى مدخل الشارع الرئيسي حيث يقع المخبز ؛ هالنا العدد الضخم من الجموع المصطّفة على طول الشارع ؛ أخذتنا الفجأة ؛ وعلمنا أن لا خيار ؛ أخذنا مكانينا بالصف الطويل الخاص بالرجال؛ وقف أمامي صبيٌّ غض …يحمل عصىً صغيرة ووقف خلفي شيخ عمر ؛ حركة الصف بطيئة جداً ؛ يمرّ الوقتً طويلاً حتى يخرج أحدهم وهو يتأبط  رغيفه راسماً إبتسامة ظفرٍ تجعل الأمل يتراقص في داخل كل المُصطفّين .

يتمدد الانتظار ثقيلا ً وتتراجع الآمال كثيراً ؛ وتبدأ الهمهمات وتتعالى الأصوات المتذمرة واللاعنة ؛ وتستقبل الصفوف مزيداً من الرّواد ؛بدأت ألحظ حركة غير طبيعية تصدر عن الصبي الذي أمامي ؛هل هي تهيؤات ؟ أغمض عينيّ وأفتحهما فأرى ما رأيته أولاً …….

يزداد الصبي طولاً وضخامة ؛ تتطاول العصا وتزداد سُمكاً ؛ ومن موقعي أرى شاربه يتمدد ويزداد كثافةً ؛ يصدر عنه صوتٌ عال  أشبه بصرخة بطل رومانيّ قديم ؛ يندفع مُسرعاً ناحية مدخل الفرن مصطدماً بالمصطفّين والذين تراجع معظمهم في هلعٍ بائن؛ يهجم الصبي الرجل على الخبز الموضوع على الطاولات الخشبية ويحمله خارجاً مصطدماً مرة أخرى بالجموع التي بدأت بالهرب من أمامه ؛أصبح المكان مثل ساحة حربٍ انتهت لتوّها ؛ وجدتني متقرفصاً على الأرض أتصبب عرقاً بارداً.

تلفتُّ باحثاً عن شيخ عمر فلم أجده ؛نهضتُ بعد جهدٍ كبير؛ قفلت راجعاً إلى المنزل والشمس تلقي بأشعتها على الطريق الذي أصبح يموج بالحركة ؛مذهولاً لا أدرى تفسيراً منطقياً لما حدث ؛ رجعت خائباً ومذهولاً هذه المرة ؛ لم أتحدث إلى أحد ؛ تمددتُ على سريري ورُحت أُراجع شريطاً حافلاً ؛غفوت للحظات نهضت بعدها أتصبب عرقاً؛استحممت  

وارتديت ملابسي لألحق بمواعيد العمل ؛ عبرت الصالة متلصصاً وكان التلفاز الرسمي وقتها يبثّ إعلاناً تحذيرياً للمواطنين الكرام بضرورة الإبتعاد عن المخابز هذه الأيام لظهور كائناتٍ فضائية تهاجم المخابز ومرتاديها .

 

شارك القصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *