غزة وسقوط الأقنعة: حين تخلع الحقيقة وجه أمريكا
Admin 29 مارس، 2025 85
أ. د. فيصل فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
• على مدى عقود، رسّخت الولايات المتحدة الأمريكية صورتها في وجدان العالم كـ«حامية للحرية»، و«مدافعة عن حقوق الإنسان»، و«راعية للعدالة» عبر سياساتها الخارجية وبياناتها الرسمية. وقد استُخدمت هذه الصورة لتبرير تدخلات عسكرية ودبلوماسية في أماكن شتى، من البلقان إلى الشرق الأوسط، على أنها تهدف إلى تحرير الشعوب من أنظمة قمعية وتثبيت قيم الديمقراطية. لكن التاريخ الحديث أظهر تباينات صارخة بين الخطاب المعلن والممارسة الفعلية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بفلسطين وقطاع غزة. غزة، تلك الرقعة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومترًا مربعًا، تحولت منذ حصارها المفروض عام 2007 إلى مختبر حي يكشف الوجه الحقيقي للسياسة الأمريكية الغربية. هنا، لا تقتصر المعاناة على قصف المنازل وتشريد الأطفال، بل تتعدى إلى انكشاف ازدواجية المعايير وانتهاك القيم التي تدعي واشنطن الدفاع عنها.
غزة أسقطت القناع
خلعت، بكل وضوح وقسوة، الوجه المزيّف لأمريكا ومنظومتها الغربية، وكشفت كيف تسقط «القيم» المعلنة في اللحظة التي تتعارض فيها مع المصالح.
في كل صاروخ يسقط على بيت في غزة، يُصاب الخطاب الأمريكي في مقتل.
في كل طفلة تُنتشل من تحت الركام، تُسحق ورقة من أوراق التوت التي غطت عورات النفاق العالمي.
وفي كل موقف رسمي بارد، تُفضَح حقيقة دولة ترفع شعارات براقة، لكنها تفعل النقيض حين يتعلّق الأمر بفلسطين.
الحرية تُقصف في غزة
ما يجري في غزة ليس صراعًا بين جيشين أو قوتين، ولا «حربًا معقّدة» كما تصفها بعض وسائل الإعلام الغربية.
ما يجري هو عدوان مكشوف على شعب أعزل، تُقصف منازله في الليل والنهار، يُحرم من الماء والكهرباء والدواء، ويُعامل كعبء لا كقضية.
لكن الأكثر فداحة من القصف، هو هذا الصمت الأمريكي الرسمي، الممزوج بدعم لا محدود للمعتدي.
واشنطن لا تكتفي بعدم الإدانة، بل تُسرع لتجديد الدعم العسكري والسياسي لإسرائيل، وتُعرقل أي محاولات دولية لوقف العدوان، ثم تخرج علينا بمقولتها الجاهزة:
«من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها».
أي دفاعٍ عن النفس يسمح بقصف الأطفال في أحضان أمهاتهم؟ أي منطقٍ أخلاقي أو قانوني يبرر تدمير أحياء بأكملها؟ وهل يُعقل أن يُحرَق مستشفى، ويُقصف مخيم، وتُمحى عائلات من السجل المدني… تحت لافتة «الدفاع عن النفس»؟
ازدواجية المعايير… عندما تصير الضحية مجرمة
حين اندلعت الحرب في أوكرانيا، تحركت أمريكا والعالم الغربي سريعًا.
أُغلِقت السفارات الروسية، فُرضت العقوبات، أُعلنت المقاطعات، وبدأ ضخّ المليارات لدعم «المقاومة الأوكرانية».
أما في غزة، فالوضع مختلف تمامًا.
الفلسطيني الذي يُدافع عن بيته يصبح «إرهابيًا»، ومن يصرخ ضد القصف يُتّهم بـ»معاداة السامية»، ومن يتضامن يُلاحق في عمله أو جامعته.
هذا الانحياز ليس مجرد موقف سياسي، بل فضيحة أخلاقية مدوية.
الدم الغربي له قيمة، أما الدم الفلسطيني، فمحكوم عليه بالتجاهل أو التبرير.
في عُرف السياسة الغربية، ليس جميع البشر متساوين. فبعض الضحايا يُبكى عليهم، وبعضهم يُلامون على موتهم.
هذه الازدواجية في المعايير لم تعد خافية على الشعوب، التي باتت أكثر وعيًا من حكوماتها.
فحين تسيل الدماء الفلسطينية، تسقط معها أقنعة «التحضر»، و»العدالة»، و»القيم الكونية».
الإعلام الغربي… شريك في الجريمة
لو لم تكن هناك صور، لو لم تكن هناك فيديوهات تُبثّ لحظة بلحظة، لظنّ البعض أن ما يجري في غزة هو تبادل ناري عادل بين قوتين.
فالإعلام الغربي – وخصوصًا الأمريكي – يتقن فنّ التمويه.
«صراع»، «اشتباكات»، «تبادل قصف»، و»عملية عسكرية محدودة»… كلها مصطلحات تُستخدم لتقزيم الفاجعة وتحييد العواطف. لا تُعرض صور الضحايا، ولا تُذكر أسماؤهم، ولا تُروى قصصهم. أما الجانب الآخر، فكل إصابة تُحوَّل إلى رواية، وكل صاروخ يقع قربه يُبثّ من عشر زوايا، ويُعاد عشرات المرات. هذا التحيّز ليس سهوًا.
هو اختيار واعٍ ومقصود لتشكيل وعي الجمهور، وخلق انطباع كاذب بأن العدالة تقف مع القاتل، لا الضحية. بل إن بعض المؤسسات الإعلامية الكبرى تتحوّل إلى ناطق باسم الجيش الإسرائيلي، وتكتفي بنقل بياناته دون تحقيق أو تمحيص، وهو ما يجعلها شريكة في الجريمة لا مجرّد ناقلة للخبر.
غزة وحدها… لكنها ليست وحيدة
رغم هذا التواطؤ الدولي، والمواقف الرسمية المخزية، لم تكن غزة وحدها تمامًا.
خرجت الشعوب في مظاهرات حاشدة، من واشنطن إلى لندن، ومن كيب تاون إلى سيدني، تهتف باسم فلسطين، وتدين العدوان، وتفضح حكوماتها.
لكن هذه الشعوب لا تملك القرار. من يملكه هو من يرى في إسرائيل حليفًا استراتيجيًا، ولو على جثث الأبرياء.
غزة وحدها على الأرض، نعم.
لكنها ليست وحدها في الوجدان.
تحوّلت إلى رمز عالمي للمظلومية والصمود، ورفعت راية الحقيقة في وجه عالم مملوء بالكذب.
من بين الركام، ومن تحت الحصار، تبعث غزة برسالة إلى البشرية:
«لسنا ضعفاء لأننا لا نملك الطائرات، أنتم الضعفاء لأنكم لا تملكون ضميرًا».
غزة تعيد تعريف الانتصار
الانتصار في معايير غزة ليس بالنقاط ولا بالأرقام.
الانتصار في أن تبقى، رغم الحصار والقصف والخذلان، واقفة.
أن تقول «لا» في زمن الاستسلام.
أن تُشهر الحقيقة في وجه من يملك القوة، وأن تُحرج من يتشدّق بالعدالة.
غزة لا تملك جيشًا ولا تحالفات، لكنها تملك كرامة لا تُشترى، وحقًا لا يُساوَم عليه.
وهذه الكرامة، التي ترفض أن تنكسر، هي أكبر من كل الصفقات، وأقوى من كل الأكاذيب الإعلامية.
العالم ما بعد غزة ليس كما قبله
غزة لم تسقط فقط الطائرات، بل أسقطت أسطورة أمريكا الأخلاقية.
كشفت أن «الحرية» التي تتحدث عنها ليست سوى أداة انتقائية، تُستخدم متى شاءت، وتُعطل حين لا تخدم أجندتها.
أمريكا خسرت في غزة ما لا يعوَّض:
صورة الدولة العادلة، المتحضّرة، صاحبة القيم.
وبات واضحًا لكل من يرى أن هذا العالم محكوم بقوة السلاح، لا بشرعية الحق.
لكن غزة، بصمودها، تُمهّد لميلاد وعي عالمي جديد.
وعي لا ينسى، لا يُخدع، ولا يسامح.
في ضوء ما شهدته غزة من قصف ممنهج وحصار خانق، صار واضحًا أن الخطاب الأمريكي الغربي عن «الدفاع عن الحرية» ليس سوى ستار يُسدل عندما تتعارض المصالح الاستراتيجية مع القيم الإنسانية. لقد أسقطت غزة القناع ليس فقط على سياسة واشنطن، بل على منظومة دولية برمتها، تُقدّم مصالح الحلفاء فوق حقوق الشعوب. وما يزيد المأساة فداحة هو أن هذه الحقيقة لم تعد خافية على أحد؛ فقد رأت أعين العالم مشاهد الألم والدمار، وسُمعت أصوات التضامن تتعالى من ملايين البشر، رغم محاولات الإعلام الغربي تجيير الحدث وتجميله.
الغرب اليوم أمام مفترق طرق أخلاقي: إما أن يُعيد بناء مصداقيته عبر الضغط الجاد لإيقاف العدوان وإنهاء الحصار، وإما أن يستمر في سياسة الكيل بمكيالين، ليخسر ليس فقط هيبته، بل إنسانيته أيضاً. أما الشعوب فهي الآن أكثر وعياً، وأقوى صوتاً، وأكثر قدرة على مساءلة حكوماتها. وربما يكون درس غزة الأعظم هو أنها رغم كل الدمار، ستظل بوصلة الحقيقة التي لا ينطلي عليها خداع القوة.
في نهاية المطاف، لن تُنسى غزة كمكانٍ جغرافي فقط، بل كرمزٍ صلب للحق الذي لا يُقهر، وصوتٍ صريح للمظلومين، ونقطة تحول تاريخية في وعي العالم. فإذا كان التاريخ يُكتب بالقوة، فقد اختارت غزة أن تكتبه بالكرامة؛ فلتكن تلك الكرامة دعوة لكل ضمير حيّ لأن يقف موقفاً أخلاقياً لا سياسيًا، ويطالب بوقف العدوان فورًا، حفاظًا على ما تبقى من قيم إنسانية قبل فوات الأوان.
شارك المقال