
د. ناجي الجندي
كاتب صحفي
• معادن الرجال لا تُعرف إلا في الشدائد، والرجل الصامد الصابر والشجاع تختبره المحن والإحن والكَبَدُ، وقد قيل: في الامتحان يُكرم المرء أو يُهان. وقال فولتير: يولد الرجال متساوين مهما اختلف تاريخ ميلادهم، لكن الفضائل تصنع الفروق فيما بينهم.
الفضائل عزيزي القارئ تظهر في كم كبير من الأمور والمهام، ولا شدة أصعب من الحرب، ولا حرب أشد من حرب أخيك لك، وابن بلدك لوطنه. حرب الدعم السريع لوطننا السودان، وقد ظهر فيها رجال لم يحملوا السلاح ولكن حملوا الدفء والطمأنينة والأمن الغذائي والكسائي لأهلهم وذويهم، وهذا لعمري لا يقل عن حمل السلاح، فقد كُتبت في كتب التأريخ الإسلامي (رفيدة الأسلمية) المجاهدة، رغم إنها لم تحمل السلاح بل حملت المشرط والأربطة والضمادات لتعالج جرحى المسلمين في الحروب.
مثل رفيدة في حرب الجنجويد كانت هناك أسماء ومنظمات وأحياء ومدن وشباب صنعوا المستحيل، وطوعوا الصعاب، وشدوا الهمم فكانت، فكانت جمعية التربية الإسلامية الخيرية بمملكة البحرين الأم الرؤوم قبل وأثناء الحرب للشعب السوداني، وقد قامت هذه الجمعية بأعمال لا يسع المقال لتفنيدها وذكرها، بل يستحي القلم أن تكون هذه الجمعية جزءًا من مقال أو سطور في صفحة أو مجرد خبر عابر، وقد كتبت عنها من قبل محاولًا لا موفيًا لبعض حقها.
فمثل رفيدة كانت منظمة كفالة الأيتام بالحصاحيصا الحلة الجديدة، رحمة ونور على مؤسسها أبو الأيتام المرحوم عاطف محمد بله الأمين، فقد أُسُّست المنظمة في العام 2004.
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم * وعاش قوم وهم في الناس أموات
المرحوم عاطف توفي قبل ست سنوات وامتدت فضائله لسنين وسنين، فظفر وهو في قبره بصدقة جارية وعمل يُنتفَعُ به، وما زال أصدقاؤه يحملون أدوات البناء والاستمرار وقد أفلحوا في ذلك، فلم تتوقف سفينتهم إلا عند مرافئ فرح الأيتام، فهم ربان مهرة وقادة لا تثبطهم آلة الحرب، فكان الامتحان أن تستمر القافلة لا تأبه بما يصنعه حملة السلاح، فإن تكاثرت المآسي عنهم فقالوا سوف نصنع من قعقعة البنادق وزعقة الرصاص مرفأ للعطف والحنان، وحِجر أم رؤوم، وصدر أب حنون لهؤلاء اليتامى، وقد فعلها أبناء رفيدة الأسلمية، كسوة عيد، وأدوية، ومواد غذائية، خراف أضاحي، وخلال فترة تمكُّن الجنجويد من المدينة، فقد واصلت المنظمة عملها في تلك الفترة الحرجة، حيث كان همّ الناس النزوح والغذاء، كان همها فرحة العيد للأيتام بمواساتهم وحل مشكلاتهم، لا سيما في رمضان.
ومثل رفيدة الأسلمية في كسلا كان الشيخ إدريس أبو همام، كان هو منظمة في شخصه، كان حكومة بوزاراتها، كان حاتم الطائي، كان شيئًا من خيال، كان عنوانًا للأصالة والنضال، كان أسطورة وجمالًا، كان رجلًا في وزنه آلاف الرجال.
ومثل رفيدة الأسلمية كانت منظمة تجمع الجزيرة الخضراء بولاية كسلا، حملها رجال استصغروا الهم الكبير، فكانوا:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ * وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها * وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
ومثل رفيدة كان شباب حي الحلة الجديدة بالحصاحيصا، فإن تعمل في ظروف السلم لأهلك ومواطنيك وجيرانك، فهذا شيء جميل وعظيم، ولكن أن تعمل ذلك العمل نفسه في الظروف المعقدة مثل ظروف الحرب، فهذا هو الأجمل والأعظم، يأسرني حي الحلة الجديدة بمدينة الحصاحيصا بالسودان، حيث تفرد شباب هذا الحي بأعمال لم يسبقهم عليها أي حي من أحياء المدينة، فقد تواصل عمل مستشفى الحلة الجديدة ليهدي خدماته لكل المحلية وما جاورها من محليات، وكان ذلك بجلد وصبر بقيادة الربان المدير الإداري مازن أحمد الشيخ، والأستاذ الفخيم المدير المالي للمستشفى عصام علي العاقب وبقية العقد الفريد. حي الحلة الجديدة هو الحي الوحيد الذي نظم شبابه دوريات لحماية الحي قياسًا بالمدينة في فترة وجود الدعم السريع، وتعاملوا بذكاء وبمداراة مع قوات الجنجويد درءًا للفتن والمشكلات، وذلك بدعم مقدر من أبناء الحي بالسعودية وبعض البلدان الأخرى. شباب الحلة الجديدة في تلك الظروف المعقدة حملوا المُوَلِّد على أكتافهم لتشغيل البيارة، وكان منظرهم وهم يحملون المولد على أكتافهم يشبه منظر قوات الشعب المسلحة وهم يحررون القصر الجمهوري، فكلها تدعو للفخر والعظمة.
كانت رفيدة – رضي الله عنها – جزءًا منا، وشيئًا فينا، وقيمة كبيرة لم تندثر، ولم تمت.
أولئك (قومي) فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
شارك المقال