
الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• ما الذي بينها وبين الأنام؟!
ما هذا التعشق الذي تفشيه في عواطف الخلق؟!
ما الذي يجعل مدينة وادعة باسمة، تغنم بهذا التتيّم القُحاف؟!
لا بد أن هناك أمراً راق الجمع، كأنما تواصوا وتعاهدوا على رأي مجانس فيها.
فسحر الأشياء لا يُرى إلا فيها.. رأي العين.
وأسفار الاعتياد تنتشي في زهوٍ بالاعتقاد، أن هناك شيئاً ما اكتمن خلف البصيرة.
فالتولع لا يأتي من عدم… والتعلق بشيء ما لا ينبت من شغور.
إنها مدني يا سادة..
مدينة رغيدة، تبتسم بمهجتها.. ولا تقبل إلا طيباً.
لا يَبقى فيها النطف، ولا تستكين لعفاشة.
لذا تتيّمت بها المَلاحة، وتمردت على العفونة الدخيلة على خاصرتها ذات يوم.
فليصمت كل ثغا، ولتُقمع أي جلبة، وليوارى أيما صُداح.. وليبقى مؤنساً صدح واد مدني الرقيق المستطاب يملأ أرجاءنا العطشى.
فالكلام لها.. والبوح حقها.. والإبانة ملك لها.. والإبداء ثبت قولاً وفعلاً..
دعوها الآن تترنم بطير الكاشف.. وروح ود الأمين.. وعن حبيبة أبوعركي.
اتركوها تداعب كراتها بأقدام فتية الأهلي، وزئير الرومان، وبسالة النهضة، وإبداع الجزيرة، وعذوبة النيل.. وحتى الإصلاح.. وعلم الوطن.
أطلقوا العنان لمسرحها، ليصدح مجدداً بإبداعات محمد السني ونصر الدين عبدالله وكوجاك والجبور وزمرتهم، لنستعيد ذكرى كبوش الباقي فينا أبداً.
افسحوا العراء شاسعاً، للياليها الثقافية لتشعّ نوراً على العقول وعياً يضعضع الجهالة.
إلا اجتماعياً، فلا حاجة لها في تعضيد.. فقد قامت وستبقى على عهدها.. يعرف بعضها بعضاً كما البيت الواحد.. في سرّائها وضرّائها.. لا قبيلة لها ولا سحنة تميز وجهها. ولا سمت مغايراً فيها.. هي كما هي.. مدني أو واد مدني.. لا تفرق عندها الألفاظ والمباني بقدر عزتها بالمقاصد والمعاني.
فهي معنى مباين ومقصد متمايز، لا صنوَ له.
نثني على من جعل حلمنا بالعودة إليها حقيقة.. ونتضرع إلى الله بأن يتقبل شهداءنا الأبرار.
قمة العطاء أن يموت الإنسان من أجل وطنه، والأروع من ذلك أن يحيا له.
والأبدع أن من فقد حياته في سبيل هذا الوطن، فإنه بذلك يكون قد امتلك الكثير، وأنار البصر والبصيرة. وأشار إلى أن الوطن أحق بالرفد.
إلا أنها عادت بفضلهم وتبسمت من جديد.. لكن الأهم والأنفع عودة أبنائها للإمساك بمفاصلها وتفاصيلها، بدلاً عن (جداد الخلا) الذي أوردها المهالك.
عادت مدني بإيقاعها الرائق ووقعها الآثر، بـ (كَفَرِها) و(وَتَرِها)، لتنزع آهات المبهورين، والمتبتلين بـ (نوبتها) الصاخبة عند الشيخ عبدالسيد.
مدني هي روح التاريخ، ومنارة المستقبل، بأرضها السخية والمعطاءة، وإنسانها المتفرد والاستثنائي.
لواد مدني رمزية سياسية واجتماعية ورياضية وفنية ماجدة، نظراً لثقلها السكاني المتنوع والخلّاق، ودورها التاريخي الأقمر، مما يضيف بعداً معنوياً لعودتها إلى حيث طيب مأواها..
لم أكن أعرف أن للمدن عطراً، إلا حينما عانقتني هذه المدينة المستلقية على النيل..
واد مدني مدينة عجيبة غريبة مفضوحة الأسارير، لا أسوار لها، وتفتح ذراعيها لكل زائر لتستقبله بأحضانها المستدفئة صيفاً وشتاء. بها وجوه مزهرة، ورياحين مودتها تتناثر كيفما اتفقت مودتها. وطرقاتها زرعت على جانبها أشجار التوق والاشتياق. وفي (حيشان) منازلها أصايص الترحاب والفساحة…
تفوح منها روائح محببة من كل قبيلة، ومن كل الوجوه والسحنات.
مدينة متسعة الأريج، مترامية الشذى الفواح، ولا ينبت فيها إلا كل سائغ.
وخير للمرء أن يموت يافعاً في سبيل مدينة مثل هذه، من أن يعمر طويلاً خائناً لأرضه، ناكصاً عن نصرتها.
شارك المقال