جنوب النص : قراءة في تضاريس القصيدة السودانية المعاصرة  3-3

43
التجاني يوسف بشير
Picture of بقلم: د.عبدالقادر جبار

بقلم: د.عبدالقادر جبار

• يضع التاريخ الأدبي الذي قرره النقاد والباحثون بشأن الظاهرة الشعرية السودانية الحديثة  القارئ المعاصر أمام استنتاج شبه مُسلّم  به يقول : ان القصيدة السودانية بنية محافظة تتبع التحولات التي جرت وتجري في الوطن العربي ، وعلى وفق هذا الاستنتاج  قدم الدكتور عبدة بدوي في دراسته عن الشعر السوداني صورة تحولات المشهد الشعري في بلاده  وكانت تلك الصورة تشي بالعلاقة الوثيقة بين الابعاد السياسية والاجتماعية والفكرية والتاريخية والاقتصادية مع النص ، وهي دراسة جديرة بالاهتمام  لكن الضغط الذي مارسه السياق الخارجي على النص في رؤية الدكتور بدوي كان عاملاً أساسياً في تحليله وتعليله أسباب التحولات في القصيدة وتلك مزيّة تحسب لصالح الدراسة  من حيث الرصد التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي ، إلاّ أن هذه الدراسة نأت بنفسها عن تحولات بنى النص الداخلية  ، لذلك كانت  نتائجها عاملاً من عوامل تكريس فكرة العلاقة بين النص والسياق الخارجي ، وهذه النتيجة جعلتها تتجاوز لحظات الانفصال عن السياق والاتجاه إلى ذاتها لتجديد  بناها ، واستمر البحث في هذه القضية  على المنوال نفسه  في بحوث النقاد الآخرين ومنهم أحمد أبوسعد الذي درس في كتابه الشعر والشعراء في السودان أهم التيارات والاتجاهات في القصيدة السودانية المعاصرة  في ضوء المعطيات الخارجية ذاتها ، إذ وجد أن  القصيدة السودانية  مرت بثلاث مراحل منذ بداية القرن العشرين وحتى نهاية العقد السادس منه ، وهذه المراحل يمكن تقسيمها على النحو الآتي : 1- الاتجاه التقليدي وهو يمثل عصري الاتراك والمهدية  ، وفيهما عاش السودان من حيث الجانب الاجتماعي على القبيلة والبداوة  ، أما في الجانب الاقتصادي فقد هيمن عليه اقتصاد  الرعي ، وهيمنت  الثقافة الدينية على البنية الفكرية الرئيسة في تلك المرحلة  ، لذلك جاءت القصيدة تقليدية وامتداداً طبيعياً للمراحل التي سبقتها من دون محاولة إحداث أي تحول واضح في بنيتها ومن أبرز شعراء التقليد في هذه المرحلة  حسين الزهراء ، عبدالله أبو المعالي ، محمد أحمد هاشم ، محمد عمر البنا ، عمر الأزهري  ….وغيرهم ، من جانبه  درس الدكتور حسن صبحي عباس شعر هذه المرحلة مسلطاً الضوء على الصورة الشعرية وخصائصها من خلال تحليل نص الشاعر … البنا قال فيه                        

الحرب صبر واللقاء ثبات    والموت في شأن الاله حياة 

والجبن عار والشجاعة هيبة    للمرء ما اقترنت بها العزمات

 والصبر عند البأس مكرمة     ومقدام الرجال تهابه الوقعات 

والاقتحام الى العدو مزية       لا يستطاع لنيلها غايات        

وتوصل صبحي الى ان النص يحاكي النمط القديم الموروث ولكنه لم يتحدث عن الصورة الشعرية فيه على الرغم من أن موضوعه الصورة الشعرية ، والحقيقة أن هذا النص يفتقر الى الصورة ، ولم يعتمد الخيال الذي يمكن أن يحفز  القارئ للانسجام معه بل اكتفى باللغة المباشرة التي تحرض على الحرب بقيم العربي الشجاع كما اراد الشاعر في رسالته ، من هنا يمكن عدّ هذه المرحلة تقليدية ونتاج السياق الثقافي المتخلف الذي سادها                                                      

    2-  المرحلة الثانية تبدأ بدخول الانكليز الى السودان باسم مصر وتمتد الى عام 1924 م وفي هذا العام وثب الجيش السوداني وثبته الكبرى ضد الاحتلال ، ولكن هذه الثورة لم تكن تعبر عن وحدة فكرية  كما كانت في المرحلة السابقة التي ساد فيها الفكر الديني بشكل شبه مطلق ، بل بدأت فيها ملامح التنوير التي انتجت  تعددية الفكر بشكلها البسيط   وبدأت معها ملامح الانفضاض عن الفكرة الواحدة (الاتجاه الديني المطلق ) ، ويتضح ذلك من خلال  محاولة بعض المثقفين عصرنة الحياة في السودان ، ومع هذا التبلور بدأت ارهاصات التغيير تتضح في القصيدة السودانية ومن أبرز شعراء هذه المرحلة : محمد سعيد العباسي ، عبدالله عبدالرحمن ، وعبدالله البنا ، والطيب السراجي ،…وغيرهم ، من أمثلة الشعر في هذه المرحلة قصيدة الشاعر عبد الله عبد الرحمن التي يقول فيها :

 كم للطبيعة في السودان من فتن وكم لأطيارها من سحر الحان

الرمل عند ضفاف النيل تحسبه سمر الشفاه جلاها بيض اسنان

وظلمة الليل في العتمور ملهمة خوالد الشعر يرويها الجديدان

3- مرحلة ما بعد عام 1924م وفيها اتضحت نتائج الثورة في ذلك العام وبدأ المثقفون في السودان محاولات إعادة انتاج الحياة بما يتلاءم مع العصر ، ويذهب الباحث أحمد أبو سعد في كتابه  (الشعر والشعراء في السودان) ،  الى القول : ( بعد هذه الثورة ارتد المتعلمون على أنفسهم ، وكان قد تزايد عددهم بفضل كلية غردون والمعهد العلمي ، والبعثات التي رحلت الى جامعة بيروت الامريكية ، فأعاد هؤلاء النظر في أوضاعهم وتساءلوا عن سر هزيمتهم المنكرة أمام العدو ) ، وكانت أهم النتائج التي توصل اليها المثقف السوداني تكمن في أن طغيان ثقافة المحاكاة والتقليد هي السبب الرئيس في تخلف السودان ، من هنا بدأت مرحلة الانفصال الكبرى عن الموروث وبدأ  البحث عن الشعر الجديد في السودان ، والحقيقة أن عملية البحث لم تكن واسعة بقدر الاحلام التي حركتها من أجل التغيير ، لذلك كان الاهتمام  بالتنظير لعملية تجديد الشعر هامشياً وانصب  الاهتمام على الحياة بشكل عام ، وهذا الاهتمام هو الذي حجب الرؤية الفكرية لأدباء السودان عن فكرة الحداثة في الشعر ، ولكن الذي حدث أن القصيدة السودانية على الرغم من قصور دعوات تجديدها استطاعت أن تنجز  بشكل عملي التحول الى مرحلة الحداثة ، وخاصة في شعر التجاني يوسف بشير ،  وهذه القناعة كما نرى لا بد أن تخضع للتدقيق ، ولعل أول مظاهر التدقيق  تكمن في محاولة إعادة انتاج تحولات الظاهرة الشعرية السودانية وبيان عناصر الابداع والاتباع   التي حدثت في المشهد الشعري العربي ومستوى توافقها مع الدعوات النظرية العربية وخاصة في مصر وبلاد الشام والعراق  في العقود الأولى من القرن العشرين  ، وفي هذا الصدد لابد من الاشارة إلى أن معظم دعوات التجديد في القصيدة العربية كانت تصطدم بالوعي الجمالي الموروث لدى المتلقي العربي الأمر الذي جعلها لاتحقق التحولات التي بشر المنظرون بها ، ولم تستطع انتاج انموذج قافز على الموروث الشعري باستثناء بعض التحولات الايقاعية التي كانت القصيدة السودانية جزء منها ، ففي دراسة النماذج الشعرية العربية في المرحلة المعروفة بالحداثة ،  لم يحقق الديوانيون  وجماعة أبولو ما يعزز تنظيراتهم بنماذج من الشعر وبقي التشكيل البصري التقليدي هو المهيمن  في القصيدة العربية (نظام الشطرين ) ، ولكن هذا الاطار التقليدي احتوى  رؤىً شعرية جديدة  وهذا ما حدث عند جماعة المهجر مع بعض المغامرات التشكيلية المتأثرة بالغرب التي لم تستطع الاستمرار والتحول إلى نمط في القصيدة العربية  ، واذا كانت تلك الرؤى هي التي جعلت  الدرس النقدي التقليدي يصف القصيدة بأنها تنتمي إلى الحداثة  فالقصيدة السودانية مرت بالمراحل ذاتها وخاصة فيما يتعلق بالاتجاه الرومانسي والصوفي ، وهنا نركز اهتمامنا على نتاج الشاعر  يوسف بشير التجاني لأنني أراه رائد الحداثة في  القصيدة السودانية  ويمثل مرحلة مهمة في تحولات تلك القصيدة والقصيدة العربية أيضا   بوصفه  الشاعر الأكثر في التأثير في مرحلة  مدارس الحداثة في الشعر العربي في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين وإذا ما أوردنا هذا الانموذج من شعره في قصيدة ، (الصوفي المعذب ) التي يقول فيها : 

كل ما في الكون يمشي في حناياه الإله

هذه النملة في رقتها رجع صداه

هو يحيا في حواشيها وهي تحيا في ثراه

وهي إن اسلمت الروح تلقتها يداه 

وفي مقطع آخر يقول :

ربّ في الاشراقة الأولى على طينة آدم 

أمم تزخر في الغيب وفي الطينة عالم 

نلاحظ أن هناك ثلاثة عناصر تمرد فيها  النص على التقليد الموروث وهي على النحو الآتي 1- التصريع ، 2- تنويع القافية 3- التشكيل البصري الذي يبدو أنه متشكل من شطر واحد مكتف بذاته ، وهذه العناصر تشير إلى محاولات مهمة لتجاوز الموروث التقليدي ، فضلاً على رسالة القصيدة وصورها ولغتها ، كما يتجلى ذلك في العلاقات الآتية : ( الطين والعالم ) ، (الحياة والوجود وعلاقتهما بالواهب والموهوب ) ، وهناك علاقات أخرى في القصيدة لا يتسع المجال لذكرها . أما رائد الحداثة الاخر فهو الشاعر محمد مفتاح الفيتوري وكما أوضحنا في مقال سابق .  

ولكي نؤكد تدقيقنا في المنجز الحداثي والمعاصر سنتناول نصوصاً  كاملة لشعراء من السودان  وسنحاول في دراستنا  فحص صحة  فرضية الحداثة المبكرة في الشعر السوداني أو نفيها ، منطلقين من دراسة البنية العميقة في القصائد  المختارة  إذ قمنا بقراءة قصيدة واحدة كاملة  للشعراء الذين تم اختيارهم ،  لأننا نرى أن القصيدة الكاملة هي التي تحقق القراءة الدقيقة ، وليس انتقاء مقطع شعري لهذا الشاعر أو ذاك لتأكيد رأي المحلل لأن الانتقائية تحجب المشهد الحقيقي للمنجز الشعري وتجعله خارج الشروط والقياسات العلمية ، فبنية الشعر متنوعة متحولة مستندة الى جدل الثبات والتغيير ومتواليات تتراوح بين القطعية والتواصل .

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *