
د. عبدالمنعم سليمان
كاتب صحفي
• الحديث عن تعاقب الأجيال وتأثير ذلك على المجتمعات موضوع مهم لكنه شائك، إذ تتداخل فيه عوامل كثيرة، كالعائلة، حركة المجتمع،
الاقتصاد، ثورة المعلومات، أنظمة الحكم…
إذا جئنا للعائلة فالدفء العائلي حالياً بدأ في التقلص، ومفاصله أصابها البرود، وأصبحت تصطك عند أول اختبار. وفي الأجيال السابقة في ذلك الوقت كان هنالك تجمع أو اجتماع عائلي على صينية الوجبات، أجندته غير المكتوبة تناقش بهدوء أثناء مضغ الطعام، فتحسها تذهب معه للعصارات الهضمية، وتهضمها العقول والقلوب، فتصبح مثل هذه النصائح عصا يتوكأ عليها الأبناء، لتقيهم عثرات الدروب.
في تعاقب الأجيال هذا تحدث تغييرات إيجابية مباشرة في حركة المجتمع، في حراك حضاري نحو الأفضل، لكل مجتمع ولكل أمة إذا توافرت الشروط في من يحملون الراية من الشباب من علم، وفكر يعين على الحراك النهضوي نحو تنمية، وبناء اجتماعي واقتصادي راكز. وقد اعتبر عالم الاجتماع الألماني المفكر (كارل مانهايم) أنّ القرن به ثلاثة أجيال، كل جيل هو ثلاثة وثلاثون عاماً.
إذا التزمنا بتقسيمة كارل مانهايم، وأسقطنا ذلك على واقعنا في الفترة من 1958م حتى 1989 م، نجد أنها تقريباً حسب التقسيمة تساوي 31 عاماً أي جيلاً كاملاً.
هذا الجيل بدأ بعد الاستقلال بعامين تقريباً، وكانت طبقة المتعلمين فيه هم الذين كانوا في بدايته في مرحلة الشباب، وكان لمعظمهم دورهم الإيجابي في المناهضة السلمية للاستعمار من خلال مؤتمر الخريحين، وتحركات عسكرية كجمعية اللواء الأبيض، وكلية غردون، في البدايات، وجامعة الخرطوم، بعد ذلك.
هذا الجيل تميّز بالوعي، وساعدهم نسبياً الوضع الاقتصادي المتماسك في البدايات، والتعليم الذي كان قائماً على بنية أساسية قوية من مناهج، وكفاءة في الأساتذة والمعلمين، والمعينات، والوسائل التعليمية، وفوق ذلك مجانيته التي أحدثت نوعاً من العدالة في الوصول إليه، فكان بذلك متاحاً للأغنياء، والفقراء، ولم يحرم ذلك أبناء محدودي الدخل من التعليم والوصول إلى أعلى مراتبه، ليكون لهم بذلك الدور مع غيرهم من الحراك في شأن الوطن، وبوعيهم شاركوا في ثورة أكتوبر ، وبداية خطوات جادة في مناخ ديمقراطي واجهته الكثير من العثرات، وذلك بسبب، تغول الطائفية على الحزبين الكبيرين، مما جعل السير في دروب الديموقراطية أعرج، وهذا العرج أغرى العسكر بالقفز مجدداً على السلطة، وفي هذا الجيل لم نغرق كاملاً في بحور التفاهات والإسفاف في الثقافة، والفن والرياضة، والتعليم، لأن سنام أبناء هذا الجيل، حتى ذلك الوقت كان عامراً بالمكارم.
حقبة الجيل الثاني والتي بدأت من العام 1989م وحتى ثورة ديسمبر المجيدة، تميزت هذه الفترة بالطول في حكم شمولي واحد، تخلله الكثير من القمع والعسف، وتفرعت فيه أغصان الفساد، واستسهل الكثيرون طريق الثراء المسفلت بضعف النفوس، فشهقت الدور، وانتفخت الجيوب، عند الكثيرين، وأصبح مثل هذا الفاسد يعتبره الناس تمساحاً ولا يعتبرونه لصاً، مع أن أبناء الجيل السابق كان عندما يسرق اللص أربعة ملايات من حبل الغسل، يزفه أبناء الحي بعد القبض عليه إلى أقرب قسم شرطة وهم يهتفون ياهو… ياهو.
اختلت المعايير مع استشراء الفساد، وأصبح الفاسد تزيّن هامته عمامة ناصعة البياض، ويده تقبض على عصاة أبنوس، تلمع سواداً كلما امتلات الجيوب.
رغم ذلك كان هنالك رد فعل عكسي لدى بعض الشباب، ساعدهم توفر وسائل التواصل الاجتماعي، وتوصلوا به وقادوا أكبر ثورة سلمية، كان مناهم أن يعبروا بها بالبلاد لبر الأمان، ولم يكن يدور بخلدهم أن البلاد ستغرق بعد ذلك في بحر الدماء من مليشيا عاثت قبل ذلك وولغت في الدماء في دارفور والناس عنهم غافلون.
أما آن لهذا البلد أن ينعم بالحرية، والعدالة، والسلام، بعد هذه الدماء في وطن القماري الحالمة.
شارك المقال