
د. الباشا برشم
كاتب واستاذ بالجامعات السودانية.
• الحنين إلى الديار ضرب من ضروب الوطنية، ومن أبرز ما يدفع إلى هذا الحنين الغربة، فكثيرون هم الذين أدمنوا الغربة والمنا في من الشعراء السودانيين. منهم من عاد نادماً خاوي الوفاض وضمه ثرى الوطن، أمثال صلاح أحمد إبراهيم (وطني – الطير المهاجر)، الدكتور عبد الله الطيب (أصداء النيل)، الدكتور محمد عبد الحي (العودة إلى سنار)، الدبلوماسي سيد أحمد الحارلو (ملعون أبوك بلد)، عثمان خالد (سهر الغربة)، ومنهم الذين لايزالون يحلمون بالرجوع إلى النجوع كالشاعر الدكتور الزين عباس عمارة والذي أنفق نصف قرن من عمره مغترباً (قصائد من بريطانيا – إطلالة من شرفة أبو ظبي – في حضرة ثورة ديسمبر)، يقول الزين:
ودّع همومك إذ تودع لندنا
وإرحل إلى السودان قلباً آمنا
وأترك على أرض المطار بطاقة
أكتب عليها بئس ذكرانا هنا
ما أروع السودان دار أحبتي
فمتى أعود إلى الديار مواطنا
سأظل أبكي غربتي وكآبتي
أبداً وألعن كل يوم لندنا
والشاعر محمد نجيب محمد علي (ذات ناصية في خراب الوطن)، والشاعر عالم عباس محمد نور، والشاعر الدكتور عوض إبراهيم عوض (البرلمان)، والشاعر فضيلي جماع (في أودية الغربة)، والشاعرة الدكتورة سميرة الغالي (للنورس أغنية أخرى)، ومنهم من قضى نحبه فيها أمثال الدكتور حسن عباس صبحي (طائر الليل)، والدكتور عبد الرحيم أبو ذكرى (الرحيل في الليل)، والنور عثمان أبكر (صحو الكلمات المنسية)، وهاشم صديق (جواب مسجل للبلد)، والدبلوماسي محمد المكي إبراهيم (أمتي)، وعلى عمر قاسم (حصاد التيه)، ومحمد مفتاح الفيتوري (شرق الشمس غرب القمر)، وهو الدرويش المتجول الذي ما أن يغتسل من وعثاء سفر إلاّ وهمّ بحزم حقائبه إلى منفى آخر، حتى صعدت روحه للرفيق الأعلى وهو يعاني ويلات الغربة في دولة المغرب ممنياً نفسه بالعودة، يقول:
لو لحظة من وسن
تغسل عني حزني
تحملني ترجعني
إلى عيون وطني
يا وطني.
وأوصى الشاعر قائلاً:
لا تحفروا لي قبراً
سأرقد في كل شبر من الأرض!
وهكذا الشاعر توسد أرض المغرب وأقيم سرداق عزائه فيها، وأقيم آخر في مدينة الجنينة عاصمة دار مساليت مسقط رأسه بمنزل السلطان تاج الدين، وآخر في أم درمان بمنزل زوجته، وآخر بالقاهرة بمنزل أسرته أيضاً. وللعلم شاعرنا تتقاسمه ثلاث جنسيات: سودانية، ليبية، ومصرية.
إنّ ظروف الحياة الضاغطة والغبن الاجتماعي الذي يعانيه كثير من الشعراء جعلهم يهجرون وطنهم بحثاً عن لقمة العيش الكريم فتفرقوا أيدي سبأ. ورغم مرارة التجربة إلا أنها تقود الشاعر إلى الصحو والتركيز وتعيد له عاطفة الحنين بصورة أقوى وأعنف ولكن العيب فيها كبير أيضاً، إذ أن الصحوة المادية فيها تأخذ طريقها وتحفر في نفس الشاعر أخاديد كثيرة واهتمامات جديدة تفرضها ويلات الحياة الاجتماعية ومتطلبات الظروف المعيشية، ويصبح الثقل المادي على روحه وشفافيته أكثر وزناً وأبعد غوراً وذلك على حساب اللطائف الإلهامية الموهوبة.




وحديث الغربة شائع عند الشعراء العرب منذ القدم، فهم يبثون أشواقهم إلى ديارهم التي رحلوا عنها وإن كانت الديار التي تغربوا فيها أرغد من ديارهم التي نشأوا فيها، ويختلط إحساس الغربة بالغبن أحياناً إذا كان في زمن يكثر فيه الظلم وسوء الحال، يقول الشاعر عمر الطيب الدوش:
أحمد ورا التيران يخب
أسيان يفكر منقلب
في اللِّ ماشين المدارس في المصاريف في الكتب
في اللِّ ضاق بيهُ المكان هسّه سافر واغترب
لمدن بعيدة تنوم وتصحى على مخدّات الطرب
والساقية طاحونة الأنين طول الليالي بتنتحب
يحيا الشعب
يحيا الشعب
وعلى ذات الإيقاع عزف عبد الله الطيب عندما كثرت عليه المكائد وفرّ بجلده إلى لندن ونيجيريا والمغرب، فهو يقرن ذكر لندن دائماً بالحنين إلى وطنه، وهو يتذكر النيل أبداً كلما ذكر إقامته في لندن متخذاً النيل رمزاً للسودان كله، يقول:
بلندن ما لي من أنيس ولا مال
وبالنيل أمسى عاذري وعُذّالي
ذكرت التقاء الأزرقين كما دنا
أخو غزلٍ من خدر عذؤاء مكسال
يقول الجاحظ: «الموت شديد وأشد منه الغربة». وخاصة عندما تكون الغربة غربة وجه ويد ولسان ولون، يقول عبد الله الطيب:
أعطش لا أهدي إلى شراب
بين الوجوه البيض كالغراب
وذات طفل أسكتت صغيرها
لما رأت من سحنتي ديجورها
لاحظ الصورة الكراكتورية في البيت الأخير!
وقول الشاعر الطيب محمد سعيد العباسي وهو طالب في مصر:
يا فتاتي ما للهوى بلد
كل قلب في الحب يبترد
فلماذا أراك ثائرة
وعلام السباب يضطرد
ألأن السواد يغمرني
ليس لي فيه يا فتاة يد
وقول النور عثمان أبكر وهو في ألمانيا:
ضحكت مثل يوسف العجوز خاطرا
يحيلني زجاجة ونافذة
لطفلة بلون القمح شعرها
وزرقة من سواحل العقيق في عيونها
تحبو إلي إصبعاً مرددا
أماه أنظريه أسودا
ضحكتُ وانحنيت
قبلتُ زرقة العقيق في عيونها
بكيت!
ومن شعر النزوح الداخلي هرباً من ويلات الحروب وبطش الساسة نذكر ما قاله الشعراء الشعبيون، كقول الحاردلو:
ناساً قُباح من الغرب يوم جونا
جابوا التصفية ومن البيوت مرقونا
أولاد ناساً عزاز متل الكلاب سوّونا
يا يابا النقس يا الإنقليز ألفونا
وقوله بعد نكبة المتمة وسبي النساء لأم درمان:
عبد الله خوي أغشى البنادر وشوفن
بنوت المتمة اتجدلن صفوفن
شايلات القرب متل الخدم في كتوفن
بعد خُمرة وجلاد سال القمل في رفوفن
مسك الختام رباعيته البكائية حين جلاء قبيلته إلى الحبشة فارّة من بطش الخليفة عبد الله:
رحلوا أولاد حمد ال للبلد رُكّازة
قطعوا اللتبراوي منويين البازة
ستات اللكيك العُقلتن نزّازة
يبكن بالدموع لي ريرة لي مِن حازة
نلاحظ استخدام الشاعر للغة (أكلوني البراغيث) وهي لهجة عربية قديمة شائعة كثيراً في السودان. رحل أولاد حمد سادات القبيلة، عابرين نهر عطبرة إلى الحبشة، ونساؤهم المنعمات الحاليات بالذهب الأصم، واللائي تنضح نواصيهن بالدهن والعطر، يبكين بالدمع الغزير على فراق منطقة ريرة ومن يسكنها.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
شارك المقال