النسبة المئوية السائبة في تقديراتنا الملفقة

1226
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• من المؤسف أن النسبة المئوية عندنا أصبحت أداةً شائعة وممتطية بلا حسيب في الخطاب اليومي، سواء في وسائل الإعلام أو النقاشات العامة، لوصف الأزمات أو مقارنة الأوضاع. لكن الغرابة تكمن في استخدامها بشكل عشوائي ومبالغ فيه، دون استناد إلى إحصاءات رسمية أو دراسات ميدانية دقيقة، مما يطرح تساؤلات حول مصداقية هذه الأرقام وانعكاساتها على صناعة القرار والوعي المجتمعي.
النسبة المئوية هي لغة الأزمات في الخطاب الشعبي، ويلجأ السودانيون إلى استخدامها كوسيلة لقياس حجم المشكلات، ففي أول منعطف للنقاش لا بدّ أن يولج أحدنا، ضمن دفوعه، كمية مقدرة من النسب المئوية المطنبة والحاضرة، وحتى في توصيف الظواهر الثقافية والتعليمية تنتشر هذه الأرقام والنسب في الخطابات السياسية والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وغالباً ما تُقدَّم كحقائق مسلَّم بها، رغم عدم وجود مصادر موثوقة تدعمها. فتسمع مثلاً أن (70%) من الخريجين عاطلون عن العمل، دون ذكر دراسة أو مسح ميداني، بينما تُعلن وسائل إعلامية عن ارتفاع نسبة الأمراض النفسية إلى (40%) دون توثيق.
وهناك من أسمّيهم سمكرجية النسب، فهم حريصون على إعطائك أرقاماً قابلة للتصديق والتحديق معاً، وهم مغرمون بتفادي العشرة ومضاعفاتها، فيرفدونك بـ (32%) أو (67%) حسب الأجواء المحيطة، حتى يبدوا أكثر دقة وبروعاً. أو كأن يعلن حزب ما، نسبة على عواهنها، بأن (80%) من الشعب من مؤيديه.
فغياب الإحصاءات الرسمية يتمدد فيه الفراغ فيملأه التخمين، ويحشوه الحسبان.
ويكمن السبب الرئيسي في هذه الظاهرة، في غياب الجهاز الإحصائي الوطني الفعّال. فمنذ عقود، لم تُجرِ الدولة تعداداً سكانياً شاملاً، حتى بتنا لا نعرف كم عددنا!!! كما أن العديد من المؤسسات الحكومية المختصة بالإحصاء تعاني من ضعف التمويل وغياب الشفافية، أو تخضع لتأثيرات سياسية تُضعف مصداقية بياناتها. هذا الفراغ أدى إلى اعتماد المواطنين والصحفيين وحتى الناشطين على التقديرات الشخصية أو التقارير غير الرسمية، والتي تُبنى أحياناً على انطباعات فردية أو أجزاء محدودة من الواقع. فمثلاً، قد يُقدّر أحد الناشطين في مجال الصحة نسبة انتشار مرض ما، بناءً على حالات شهدها في مستشفى محلي، دون مراعاة التنوع الجغرافي أو الديموغرافي.
هذا التضليل يؤدي حتماً إلى تشويه الوعي المجتمعي والسياسات، ولا يقتصر تأثير هذه الممارسة على إعطاب الحقائق فحسب، بل يمتد إلى تعميق الأزمات. فهذا الاستخدام بنسب مئوية عشوائية يُسهم في تضليل الرأي العام، كأن تُنشر نسبة مبالغ فيها عن انهيار القطاع الصحي، مما يولد ذعراً مجتمعياً، أو يُضعف الثقة بالمؤسسات القائمة.
كذلك يؤدي إلى تعطيل صناعة القرار، وقد تعتمد الجهات الرسمية أو المنظمات الدولية على هذه الأرقام المتواترة وغير الدقيقة لوضع خطط تنموية، مما يؤدي إلى توجيه الموارد بشكل خاطئ.
كما أن هذا التضليل قد يؤدي إلى تأجيج الصراعات، فاستخدام تقدير النسب أحياناً كأداة سياسية لتعزيز الروايات الإثنية أو الإقليمية، مثل الادعاءات حول توزيع الثروة أو الفرص بين المناطق بزعم المظلومية والإجحاف.
لذلك من الضروري جداً أن ننتقل من التخمين إلى الدقة، لضبط استخدام النسبة المئوية، ولا بدّ من تفعيل دور الجهاز المركزي للإحصاء، عبر توفير الدعم المالي والفني، وإجراء مسوحات دورية شاملة مع نشر النتائج بشفافية.
كذلك تعزيز الثقافة الإحصائية لدى الإعلاميين والناشطين، بتدريبهم على كيفية تحليل البيانات، والتمييز بين المصادر الموثوقة والمضللة.
وتشجيع الأكاديميين والباحثين على إنتاج دراسات ميدانية ترصد الواقع السوداني بدقة، بدلاً من الاعتماد على التكهنات الغريرة.
وأخيراً إشراك المجتمع الدولي في دعم المشاريع الإحصائية، مع ضمان حيادها.
فاستخدام النسبة المئوية في السودان يعكس رغبةً مشروعة في قياس الواقع وتوصيفه، لكن تحويلها إلى أداة للخطاب العاطفي أو السياسي دون أساس علمي، يُفاقم الأزمات بدلاً من حلها. فالأرقام، حين تُقدّس في ظل غياب الحقائق، تصبح جزءاً من المشكلة، لا الحل.
فضلاً واستعطافاً وتوسلاً… ارحمونا من هذه العلامة (%) الطليقة بلا رقيب.
سؤال نزيه عن الغرض: من منكم يعرف النسبة المئوية لعدد الأجانب في السودان مقارنة بالمواطنين؟

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *