

د. أسامة خليل
• تعرف عند أهلها بـ»قضروف سعد»، وهي من الألقاب التي أطلقت على المدينة، ويذهب الرواة إلى أنَّ «سعد» هو اسمٌ لتاجر قبطي أسس أول متجر فيها، وكان الرُّحَّل يَفِدُونَ إلى متجره، فأطلقوا على القضارف في بداية نشأتها هذا الاسم، في حين ينسب البعض شخصية سعد إلى قبائل أخرى كالشكرية والضباينة والبوادرة، وكلها من الجماعات التي استوطنت المنطقة. ووفقاً لروايات البوادرة بأن «سعد» هو ابن الملك محمود وحفيد المك جاسر الذي كان يحكم البطانة من جبل تواوا، وشارك في حلف الفونج الذي قضى على دولة علوة المسيحية.
اختلفت الروايات حول معنى لفظ «قضارف» بفتح القاف والضاد وكسر الراء» وسبب التسمية به، ولعل الرواية الأكثر شيوعاً وسط رواد المدينة هي تلك التي تذهب إلى أن المكان الذي قامت عليه مدينة القضارف كانت تقام فيه سوقاً «وهو ما أكدته أيضاً كتابات المستشكف البريطاني اسكوت التي تحدثت عن سوقٍ يُقام مرتين في الأسبوع»، ويؤمها سكان البوادي وتجمعات الرحل من عرب البوادرة والشكرية وغيرهم للمقايضة والتبضع. وكان هناك منادٍ يعلن دائماً على الملأ عند مغيب الشمس إغلاق السوق، داعياً إلى المغادرة ويقول باللهجة العربية السودانية «اللي قضى يرف..اللي قضى يرف»، أي الذي قضى أموره عليه أن يغادر. وأخذ الناس في تداول هذا النداء فيما بينهم عند ذكر السوق، فكانوا يقولون لنذهب إلى سوق «القضا يرف» وبتحريف بسيط أطلق على السوق اسم القضا يرف، وهكذا تحول سوق «القضى يرف» المؤقت إلى تجمع استيطاني بعد أن استقر فيه بعض رواده مستفيدين من خصوبة التربة ووفرة المياه، وأصبح التجمع قرية حملت اسم القضاريرف، فالقضارف.
اشتهرت مدينة القضارف -على وجه التحديد- بمحصول السمسم مقارنة بغيرها من الغلال، ولهذا ارتبطت بأغنية «يا سمسم القضارف» حتى أصبحت إلياذة المدينة تنشد في محافلها المختلفة، وقد ذكرت منشدتها عائشة الفلاتية أنها سمعتها في بيت «سماية» بالعباسية على لسان حسن جبر الدار، وكان ينقر على طبلية صغيرة كما الدلوكة، وقد استحسنتها فحفظتها عنه بكوبليهاتها المشهورة عنها في الإذاعة بحسب قول أبو داوؤد في رواية على المك:
يا سمسم القضارف
الزول صغير ما عارف
يا قليب الريد كلما هديتك شارف
*
حبيب تعال نتقادم
نسير سوى ونتكالم
أطير حدي وأختفي عن العالم
*
يا يمة لا تدقنو
العقر ما بلدنو
ألفين جنيه من أمه ما بجيبنو
*
شديتو فوق الهولو
وندهت ليهو رسولو
حبيب الروح محل ما يروح بنزورو
*
حبيب بريدك ريدة
ريدة الحمام لوليدها
حبيب تعال خلي النتم الريدة
**
يا يمة ماني وحيدي
شايلة الصغيرة فوق إيدي
ما بي الفراش وداير الرقاد في إيدي
ويضيف أبو داوؤد أنه استمع لترزي في حي الداخلة بعطبرة يغنيها بالعود في كوبليهات مختلفة تماماً عما سجلته الفلاتية:
حبيب بخاف العقبة
وبسدر معاك العتبة
عقد السوميت يا الدلدلوك في الرقبة
*
السمسم الداقنو
تحت السرير داسنو
ياالله هوي وينو الحبيب دايرنو
*
الأصفر الهنودي
حاربت ليك بلودي
الله الكريم يتم لي مرودي
*
أمانة يا غزيل
في فرعك المميل
حبيب الروح محل ما يميل نميل
*
طلعت فوق التمر
بشوف جلابة التمر
حبيب الروح المال فداية العمر
تتميز مدينة القضارف بتربتها الطينية الخصيبة، وبخاصة في فصل الخريف حينما تخضَّر الأرض وتنبثق مباهج الحياة في ربوعها، فتكون أدعى للشعراء لينسجوا منها لوحة شعرية يصفون من خلالها صور الطبيعة المشرقة التي استوحاها الشاعر إدريس جماع ليقدم صورة وصفية لسحر الطبيعة والمراعي عند مطلع الخريف عقب انحسار موجة الصيف القاسية، حين يزاوج بين نفسه المقبلة على الحياة وبين الطبيعة من حوله عند حلول فصل الخريف، فتندي الحقول، وتخضَّرُ السهول وتصدح الطيور مرددة ألحان الطبيعة الغنَّاء:
لَكِ يَا قَضَارِفُ رَوْعَةٌ تَرَكْتِ شِعَابَ النَّفْس سَكْرَى
جِئْـنَا وأَطْيَارُ الخَرِيْفِ صَـوَادِحٌ يِبْنِـيْنَ وَكْرَا
والأَرْضُ حَالِمَةٌ تُخَبِيء لِلخَرِيْفِ نَـدَىً وعِطْرَا
كَانَتْ حَيَـاتِي كَالرُّبَـى فِي الصَيْفِ قَاحِلةً وحَرَّى
واليَّوْمَ صِرْتُ خَرِيْفَهَا فَاخْضرَّ مِنهَا مَا تَعرَّى
بينما يستوقف الشاعر أبوعاقلة فصل الخريف في القضارف بأمطاره الغزيرة، وتلك البروق اللوامع ورائحة الدعاش التي تعبق الطبيعة من حولها، وقد انتظمت حقولها بالزراعة، وكل يدأب في نشاطٍ وهمة التماساً للرزق:
رَأَيْتَ الجَمْعَ يَدْأَبُ فِي نَشِاطٍ كَشَأَنِ النَّحْلِ فِي حَرْبٍ سِجِالِ
تَراهمُ يهْرَعُوْنَ إِلَى مَسُوْرٍ ع َلَى عَزْمَيْنِ.. مَجْهُودٍ ومَالِ
يَشَقُّونَ الأَرَاضِي فِي بِكُـوْرٍ ويَرْجُـوْنَ السَّمَاءَ لِكُلِّ حَالٍ
فَمَا كَفْرُوا إِذَا ما الرِّزْقُ وَلَّى ولَا جَـزِعُوا لِدُنْيَـا.. لِلزَوَالِ
لِرَغْدِ العَيْشِ فِي السُّودَانِ جَدُّوا ومَا بَخِلُوا بِمُرْتَخْصٍ..وغَالِ
ويتوغل بنا الشاعر خليل عجب الدور إلى داخل الحقول ليقدم صورة أخرى لحياة الطبقة الكادحة من المزارعين في أسلوبٍ فكهٍ، يمزج فيها العربية الفصحى بالدارجة السودانية، مما أكسب القصيدة روعة في التعبير وسهولة في المعنى وقُرباً في الفهم للأذهان. لما يتميز به شعره بروح الفكاهة والنَفَسْ السوداني الأصيل الذي يشمُ قارئه رائحة الأرض في القضارف أوان الخريف، ويسمع من خلاله خرير المياه في الخيران، وتفوح منه أنفاس البسطاء من الترابلة:
أَمَا تَرَى البَرْقَ جَوْفَ اللَيْلِ مُبْتَسِمَاً
والجَوَّ بِالسُّحْبِ أَمْسَى جِدَّ مَشْحُوْنِ
أَسْرِعْ بِأَنْشَطِ عُمَّالٍ لَهَمْ هِمَمٌ
كَالجُنْدِ حِيْنَ تَرَاهُمُ فِي المَيَادِينِ
لَوْ قُلْتَ هَيَّا بِنَا هَبُّوا عَلَى عَجَلٍ
مِثْلَ البَعِيرِ طَلِيْقَاً غَيْرَ مَرْسُونِ
عُمَّالُنا الغُبْشُ فِي فَصْلِ الخَرِيْفِ
لَهُمْ عَلَى المَكَارِهِ صَبْرٌ غَيْرُ مَمْنُونِ
إِذَا الدَّقِيْقُ انْتَهَى يَوْمَاً فَـإِنَّ لَهُـمْ
فِي «البُوْرِ» زَادَاً هُوَ «الحُمَّيْضُ» كَالتِيْنِ
وإِنْ أَحَسُّوا بِبَرْدٍ فَالدُخَانُ لَهُـمْ
فِي اللَّيْلِ أَمْتَعُ مِنْ دِفْءِ البَطَاطِيْنِ
يَا حَبَّذَا لُقْمَةٌ فِي الصُبْحِ دَافِئَـةٌ
أَلَذُّ فِي الأَكلِ مِنْ»قُرَاصَةِ الفِيْنِي»
ولوحة وصفية أخرى للشاعر أبوعاقلة وقد بهرته مدينة القضارف بسحرها حتى غدت عالية شمَّاء مثل قرص الشمس، وهي مطوَّقةٌ سلاسل الهضاب والجبال لتشكل في ذهن المتلقي صورة أشبه بمدينة للحرب عدت، وصوامع الغلال المشرئبة إلى السماء كمعلمٍ بارز لمدينة القضارف الزراعية:
تَأَمَّلْ هَا.. تَوَاوَا قَدْ تَرَاءَى عَلَى الآفَاقِ يَشْمُخُ فِي اعْتِدَالِ
وهَاتِيْـكَ المَعَالِمَ اشْـرَأَبَّتْ ومَرْحَى تِلْكَ صَوْمَعَةُ الغَلَالِ
وذَاكَ الجَيْشُ يَرْبِطُ فِي عُلُوٍ كَوَكْرِ النَّسْرِ فِي الشُّمِّ العَوَالِي
يَصُدُّ العَادِيَاتَ إِذَا تَعَـدَّتْ ويَحْسِـمُ أَمْـرَهَا عِنْدَ القِتَالِ
هِي «القَضْرُوفُ» يَا صَاحِ أَطَلَّتْ كَقُـرْصِ الشَّمْسِ.. فِي دَلَالِ
بَدَتْ كَمَدِيْنَةٍ لِلحَرْبِ عُـدَتْ مُحَصَّـنَةً بِسِلْسِـلَهِ التِّلَالِ
فالطبيعة الساحرة للقضارف تحوِّل المدينة إلى خضرة تكاد تكون دائمة، حين نرى أرض البطانة التي تقع مدينة القضارف واحة في سهلها الممتد المنبثق، وخريفها الرَّيان تختلف عن بقية مدن السودان؛ لكونها مدينة ينطبق عليها الوصف الأنثربولوجي للمدينة. فهي حاضرة المشاريع الزراعية التي قامت حولها من سمسم، ودوكة وحتى الفشقة، ونهر ستيت وباسلام.
كما شكلت حاضرة إدارية لزعمائها من السَّناب، باعتبارها واحدة من أكبر مراكز الإدارة الأهلية لقبيلة الشكرية. إضافة إلى كون النظم الإدارية المختلفة في السودان اتخذتها حاضرة من أهم حواضر الشرق وأعطتها بعضاً من النفوذ الإداري والتنفيذي مما جعلها تنهض شيئاً فشيئاً، الأمر الذي أهَّلها أن تحتل الصدارة في مجال الزراعة المطرية في السودان.
شارك الموضوع