الذاكرة السودانية: روشتة البروفيسور محمد هاشم عوض لعلل السودان الاقتصادية
Admin 15 مارس، 2025 47

بقلم: محمد الشيخ حسين
• بعد نجاح تجربة التعاون في السودان في سبعينيات القرن الماضي، أصبح اسم البروفسيور محمد هاشم عوض متداولاً في كل بيت سوداني.
وهذه الذاكرة الاقتصادية السياسية تحمل في ثناياها مواقفه واهتماماته المتعددة، فالبروفيسور محمد هاشم عوض أحد أبرز الاقتصاديين السودانيين إن لم يكن أبرزهم، صاحب معرفة وخبرة نظرية وعملية عن أداء الاقتصاد السوداني. وهو أستاذ الجامعة الذي هجر الوظيفة المرموقة ليعمل وزيراً للتجارة والتعاون والتموين في عهد الرئيس جعفر نميري (1969 ـ 1985)، ومن ثم أثمرت وزارته في أن التعاون أصبح قطاعاً مهما في الخريطة الاقتصادية في تلك الأيام.
ودلف إلى علاقات الإنتاج ساعياً إلى الخروج برؤية سودانية.
وعقب انتفاضة أبريل 1985 مارس الكتابة في الصحافة قليلاً ثم لزم الصمت طويلاً.

صندوق النقد
عرف البروفيسور محمد هاشم عوض منذ منتصف الستينيات بأنه من أشد المعارضين لسياسات صندوق النقد الدولي في دول العالم الثالث كافة، ولم يكتف بالمعارضة وحدها، بل أنه يقدم البدائل أيضا كما يتضح في السطور التالية.
قد تؤدي ضآلة أو ندرة المعلومات المتاحة عن الأزمة الاقتصادية في السودان إلى كثرة الألفاظ وغلبة الإنشاء في الحديث عنها، إضافة إلى عدم استنادها في أغلب الأحيان إلى أية أرقام أو إحصائيات.
لكن البروفسيور محمد هاشم عوض يرجح أن المعلومات في الواقع متوفرة ولكن نشرها هو الذي يتم ببطء. فإذا بحثت عن تقرير التجارة الخارجية لحكومة السودان لا تجد أي أرقام عنها، إلا إذا صدر التقرير السنوي لبنك السودان أو تنتظر حتى يأتي تقرير البنك الدولي، والتقرير الصادر من الجهتين يحتوي على إحصائيات تعود إلى عامين سبقا صدورها، إضافة إلى النشرات الدورية لبنك السودان أصبحت لا تصدر في الوقت المناسب.
والظاهرة الغربية أن أحدث المعلومات تجدها دائما عند البعثات الدولية التي تزور السودان من حين لآخر.
ويخلص البروف إلى القول أنه من الصعب جداً علينا أن نتحدث وفقاً لأحدث المعلومات. وفي بعض الأحيان يتم الاعتماد على الصحف والتصريحات التي تنشر فيها.
التقارير المفقودة
ينبه البروف إلى نقطة فحواها أن كثيراً من التقارير المهمة التي أعدت عن السودان مفقودة تماما. ومن بينها تقرير لجنة (رست) الذي أعد عن مشروع الجزيرة، وكذلك التقارير التي أعدتها المنظمات المختلفة عن القطاع الزراعي. وهناك تقرير لجنة علاقات الإنتاج التي أعد في عام 1973م، ويحتوي على مسح كامل لعلاقات الإنتاج في كل المشاريع الزراعية في السودان.
رغم النظرية الرائجة أن جوهر الأزمة الاقتصادية في السودان هو الإنتاج وعلاقاته، إلا أن البروف يشير إلى أن علاقات الإنتاج في السودان متنوعة جداً لا سيما في القطاع الزراعي وأكثرها انتشارا علاقة الشراكة. وهناك إصرار شديد من البنك الدولي على الاستبدال بهذه الشراكات نظام الفئات.
ونظام الشراكة هو أنجح نظام يُرغِّب كل الشركاء في تحسين الإنتاج. أما نظام الفئات فقد طبق في المشاريع المروية في الإقليم الشمالي وكان حصاده مشاكل رهيبة أدت إلى توقف معظم تلك المشاريع.
وذكروا أن مشكلة الشراكة أنها نظام جامد يعني إذا زاد الإنتاج الزراعي فإن المزارع لا يحصد عائداً أكبر وقد عدلنا هذا النظام بحيث كلما ارتفع الإنتاج كلما زاد نصيب المزارع.
وليست هناك مشكلة إنتاج في السودان، المشكلة نشأت في المشاريع الخصوصية لأن أصحابها لم يلتزموا بوجباتهم تجاه المزارع.
يرجح البروف أن مقومات الإنتاج هي المشكلة الأساسية، وهذا مكمن الضرر ذلك أن عدم توفر المواد البترولية أو تطهير القنوات يضاف إليها أن البنك الدولي يصر على استيراد معدات ليست ذات أهمية أطلاقا مثل وسائل الاتصالات الحديثة والسيارات الفارهة وتجدهم لا يبذلون أي جهد لتطهير القنوات أو توفير المواد البترولية.
وهناك قضية رش المحاصيل بالمبيدات، وهناك اتفاق أن السودانيين يرشون المحاصيل أكثر من اللازم، إضافة إلى أن المبيدات نفسها غالبا ما تكون فاسدة.
*البنك الدولي*
يعتبر البروف أن البنك الدولي، طبيب فاشل لأمراض التنمية في العالم الثالث، وقد بدأ الكتابة عن البنك الدولي في عام 1965م. وكان صوته وحيداً وكان الناس يتهمونه باليسارية والشيوعية. واتضح له وقتئذ أن شريكه في الرأي أحد الكتاب من أمريكا اللاتينية وكانت منطلقاته مختلفة عنه في التناول، ولكن المهم في الأمر أنه بعد ربع قرن من الزمان (مطلع تسعينيات القرن الماضي) يكاد يكون هناك إجماع في الدول النامية وحتى الصناعية بأن البنك الدولي وصندوق النقد هما سببا الكارثة في العالم الثالث.
الوصفة الجاهزة
المشكلة عند البروف محمد هاشم أن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لديهما وصفة جاهزة يعتقدان فيها أن النظام الحر هو الحل النموذجي للعالم الثالث. ويعتقدان أن التنمية تتم بالقروض الخارجية والمهم زيادة الإنتاج بإطلاق يد القطاع الخاص في العمل الإنتاجي المربح ولا يهم بعد ذلك اتساع الفوارق بين الأغنياء والفقراء.
والشخص الوحيد الذي حاول تعديل هذه الوصفة هو روبرت ماكنمارا، بإضفاء النظرة الإنسانية واهتم بالفقراء، ولكنه انطلق من المصالح الغربية إذ أنهم شعروا أن البنك الدولي يدفع غالبية سكان العالم الثالث للاتجاه نحو اليسار.
وزاد الطين بله أن وصفة صندوق النقد الدولي جاءت على نفس المنوال، وكانت مهمته الأولى إيقاف التنمية في البلاد الفقيرة، لكي يسترد الأغنياء ديونهم من الفقراء. وفي نفس الوقت يفتح أسواق الدول الفقيرة لمنتجات الدول الغنية ويعود بها إلى إنتاج المواد الخام.
خفض الإنفاق
رغم أن أهم طلب لصندوق النقد هو التقشف بخفض الإنفاق الحكومي، إلا أن البروف محمد يرى أن الحل في التوسع بزيادة الإنفاق الحكومي.
يقول الصندوق زيادة الإنفاق الحكومي تعني زيادة العجز في الميزانية، لكن البروف محمد يرى أن العجز في الميزانية الذي يمول بطبع الورق، سببه ارتفاع سعر الدولار الذي يجعل البنك المركزي يدفع أكثر مقابل العملات الأجنبية.
ويقرب الصورة إذا منح السودان 100 مليون دولار كان مقابلها 250 مليون جنيه سوداني بالسعر الرسمي. والآن أصبح مقابلها مليارا و200 مليون جنيه سوداني. وهذا يحتم على بنك السودان طبع كميات ضخمة من الأوراق المالية، وهذا سبب التضخم الأساسي. وهنا يقرر أن العجز في الميزانية هو نتيجة وليس سببا للتضخم. وسد العجز في الميزانية يمكن أن يتم بصورة واضحة في أن إيرادات الدولة تمثل 8 في المائة من الدخل القومي، في حين أنها تصل في البلاد الأخرى إلى 22 في المائة. وحتى الإنفاق الحكومي في السودان يصل إلى 16 في المائة في حين يصل في البلاد الأخرى إلى 22 في المائة.
والحل زيادة الإيرادات لسد العجز وكذلك زيادة الإنفاق. وهذه الطريقة تساعد على التوسع في تقديم خدمات أفضل تساهم في عملية الاستثمار.
من جانب آخر، يتعين زيادة الإيرادات عن طريق زيادة الضرائب على الأغنياء. ولا أقصد أصحاب الرساميل كما يتصور البعض أو المنتجين، وإنما أتحدث عن بعض الذين يملكون أموالا ضخمة يضاربون بها في تجارة العملة وشراء السيارات والعقارات. وهذه الشريحة في أحسن الأحوال تدفع 8 في المائة من دخلها للضرائب.
أما الفقراء أو الأكثر فقرا والذين يمثلون 40 في المائة من سكان السودان والذين ينالون 12 في المائة من الدخل القومي يدفعون ضرائب تصل إلى 22 في المائة، والحل في صورته النهائية هو مزيد من العدالة بحل مشكلة الإيرادات والعجز ويتيح الفرصة للتوسع.

رفع الدعم
تحتوي روشتة صندوق النقد على طلب دائم برفع الدعم عن السلع الأساسية لتقليل عجز الميزانية، هل في إمكان الحكومة السودانية رفع الدعم وفقا لما يرى الصندوق.
يضرب البروف محمد مثلا بالخبز لرفع الدعم ذلك أن سعره بقرشين والآن بـ 25 قرشا.
الذي حدث أن الدولار الذي يجلب دقيقا لخبز رغيف واحد كان سعره جنيها والرغيف يباع بـ 120 قرشا، والربح 20 قرشا. بعد فترة رفعنا سعر الدولار إلى جنيه ونصف فأصبحت تكلفة الدقيق بالعملة السودانية جنيها ونصف. وكان الربح 20 قرشا ثم أصبحت الخسارة 30 قرشا، ثم يأتي صندوق النقد ليقرر أن هذه الخسارة دعم ينبغي رفعه بمعنى أن نرفع سعر الرغيف إلى 150 قرشا وتزيد عليها العشرين قرشا الربح السابق ويصبح الرغيف بـ 170 قرشا.
ومرة ثانية تقوم الحكومة برفع سعر الدولار ويطالب الصندوق بسحب الدعم المتوهم من تخفيض سعر صرف الجنيه السوداني، وهكذا.
الشاهد أن الدعم تم رفعه مئات المرات، ولكنه دعم متوهم ومزعوم مبعثه ليس ارتفاع التكلفة الحقيقية، ولكن سببه أننا نرفع بطريقة مصطنعة سعر صرف الدولار محليا.
أما تصفية القطاع العام، فيرى أنها فكرة غير عملية والسبب الحقيقي لهذه الدعوة هو سيادة مبدأ التخصيص أو التحول من القطاع العام إلى الخاص. ولكن السؤال هل يستطيع القطاع الخاص السوداني شراء السكة الحديد؟ هل في مقدوره شراء مشروع الجزيرة؟
هذه السياسة عند البروف محمد هي من سيئات صندوق النقد الدولي تهدف في الدول النامية إلى تطبيق ما يسمى سواب ويقصد بها تحويل الديون إلى أسهم في المؤسسات والمشاريع السودانية.
وهذه العملية دبر لها منذ فترة طويلة منذ أن بدأوا يطالبون بتحويل المؤسسات العامة إلى شركات تسجل تحت قانون الشركات، لأن الشركات لها حرية العمل والاستثمار، وليس هذا هدفهم الحقيقي إذ ما يشغلهم هو أن يمتلكوا أسهما في مؤسسات مملوكة تماما للدولة. ويصبح هدفهم الحقيقي الاستيلاء على هذه الشركات. وهذا يعني عودة الاستعمار لأنهم لا يستثمرون وإنما بديونهم يتحكمون في هذه الشركات.
إضافة إلى أن أول المتضررين من تصفية القطاع العام هو القطاع الخاص.
إغراء التطبيق
يرتبط تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي عادة بإغراء أن الدولة التي تلتزم بالشروط سينهمر عليها التمويل الكافي للتنمية، ينظر البروف محمد إلى هذا الإغراء بتوضيح أن تقارير صندوق النقد تفيد أن الصندوق أخذ من الدول النامية أكثر مما أعطاها بفارق نحو ثلاثة مليارات دولار. والسبب أن الدول الصناعية أصبحت تتباعد عن الدول النامية وتحاول أن تسترد ديونها منها، بل حققت ما تصبو إليه عن طريق سياسات صندوق النقد الدولي التي فتحت الباب واسعا لهروب الرساميل من الدول النامية إلى الدول الغنية وليس العكس.
والمعروف أن أعدادا كبيرة من السودانيين تستثمر ما بين 14 ـ 18 مليار دولار في الخارج. (إحصائية 1989).
وصندوق النقد يقدم شروطه تحت إغراء تقديم دعم السودان في حدود 220 مليون دولار، ولكنه في نفس الوقت يطالب السودان بمليار دولار.
والذي يحدث أن السودان لا يملك هذا المليار دولار وتقوم إحدى الدول العربية بدفع المبلغ للصندوق ثم يبدأ يراقب شروطه وسير تنفيذها. وفي حالة حدوث أي ثغرة يوقف برنامج مساعداته ويعلق العضوية وتصبح النتيجة أن الصندوق استرد ديونه أو بعضها وطبق له السودان شروطه دون أن يدفع أي مليم.
وهذه هي الحيلة التي تطبق دائما، ولذا فليس هناك أي دعم سيصل الدولة التي تلتزم سياسة الصندوق، والذي أؤكده أن الصندوق لن يقدم لنا أي شيء وسيأخذ أكثر ما يعطي.
السمة السائدة
العشوائية هي السمة السائدة في الاقتصاد السوداني وتزيدها سوءا الطفيلية، يدعو البروف محمد هاشم إلى ضرورة التفريق بين الرأسمالي والثري الطفيلي، فالأول رجل منتج، ولكن هناك طبقة طفيلية ظهرت في السودان تعيش على المضاربة والمراباة المستترة. وهذه الطبقة تضارب في العملة والعقارات والسيارات، وتجارة السيارات تجارة خفية تدفع فيها أموال طائلة لدرجة أن السيارة (الكريسيدا) يطلقون عليها اسم الدولار.
وأموال هذه الطبقة تتحرك بصورة سريعة جدا وترفع من معدلات التضخم، والأسوأ أنها طبقة مستهلكة وهي سبب ارتفاع معدلات الاستهلاك في السودان خلال العشر سنوات الماضية (1989 ـ 1999) على 82 في المائة بعد أن كانت 67 في المائة، وهبطت المدخرات إلى 4 في المائة فقط، بعد أن كانت 12 في المائة.
وهذه الطبقة مسؤولة عن تدهور ميزان المدفوعات باستيرادها للكماليات وبنهم شديد.
وأصبحت المحصلة توفير الكماليات وانعدام الضروريات وهذه الطبقة نشأت في ظل الاختلال الذي أحدثته سياسات صندوق النقد الدولي وساعدت فيه، ولكنها مع ذلك مستفيدة من هذا الاختلال.
الدليل المفقود
ختام إفادات لبروفيسور محمد هاشم عوض أن ملامح الخروج من الأزمة الاقتصادية في السودان هو البحث عن رؤية سودانية أصيلة لحل قضايانا بحيث لا نعلق أو نرفض مبدئيا التعامل مع صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو أية جهة أخرى، ولكننا نريد أن يكون القرار قرارنا يصدر بقناعة وهذا أولا.
ثانيا: الاعتماد على الذات ولاسيما أن انتظار مساعدات الغير أصبح أمرا غير ذي جدوى.
أما مؤشرات الحل المطلوب فهي التوسع في التنمية وليس الانكماش وهذا هو الدليل المفقود.
• نقلاً عن موقع المحقق
شارك المقال