عمر غلام الله

عمر غلام الله

قاص وكاتب صحفي

• لبس أبي جلابيته ووضع المظروف الغالي داخل جيبه وتأكد أنه وصل الى قاع الجيب، وتحسسه عدة مرات قبل أن يصل باب الحوش، وأمي وراءه توصيه أن يركب تاكسي بدل البصات حتى لا ينشله أولاد الحرام، وأوصته أن يركز جيداً وهو يوقع العقد- عقد شراء البيت- وألا ينسى أن يأخذ معه حسين وعبد المجيد ليشهدوا على العقد، فهم معروفون في السوق ومأمونون.. كل هذا ويد أبي تتحسس المظروف (أبو مية جنيه).. تلك المائة التي جمعها أبي خلال مسيرة عمله في وزارة الري، مضافاً إليها ما وصله بالأمس من الشمالية نصيبه من ثمن محصول البلح الذي تم بيعه في هذا الموسم.. وحصيلة ثمن ذهب أمي الذي ورثته عن أمها وذاك الذي أهداه إياها أبي في عرسها، والذي بيع أيضاً، ليكتمل ثمن البيت الذي سيأوينا بعد تقاعد أبي عن العمل ونزع البيت الحكومي منا..

رغم أن أمي أقنعتني بأن أؤجل موضوع خزانة الكتب التي رغبت في الحصول عليها إلى حين- لأن البيت أهم- ولكن ما زلت ممتعضاً من هذا التأجيل، فكتبي على الأرفف يعلوها الغبار، وتحت المراتب.. ولكن البيت أهم، هذا ما ظللنا نسمعه طيلة سنين طويلة كلما أردنا شيئاً أو رغبنا في حيازة شئ، ثم طمأنت نفسي بأن العقبة الكأداء قد أزيحت ابتداء من اليوم، فعقب شراء البيت لن يكون هناك عذر لتأجيل شراء خزانة الكتب والاشتراك في النادي الرياضي، وشراء كتب آجاثا كريستي وروايات إحسان عبد القدوس وسلسلة جيمس بوند..

لاحظت أن حركة أمي في البيت غير عادية، فهي تدخل وتخرج من غرفة الى غرفة ومن المطبخ الى الحوش ثم الى المطبخ مرة أخرى، ثم تفتح باب الحوش وتنظر الى الشارع- رغم أن أبي قد اختفى من الشارع منذ فترة ليست بالقصيرة، ومؤكد أنه لم يعد بعد- وتحدث كل هذه الحركة في أوقات متقاربة جداً، وهي متوترة، وتتغير تعابير وجهها باستمرار، فمرة هي مبتسمة ومرة مغضنة الجبين مكفهرة، مرة تغني ومرة تمدح ومرة تدعو، ويبدو ان موضوع شراء البيت هو السبب وراء هذه الحركة الكثيرة.. حاولت أن أشغلها بالحديث معها، ولكنها كانت ترد عليّ باقتضاب وبالها مشغول عني..

ويبدو أن التوتر قد انتقل إليّ أنا أيضاً، فقررت أن أخرج وأمشي قليلاً لعلي أفرغ شحنات التوتر تلك، وخارج البيت قررت أن أذهب الى صديقي عبد الواحد.. جلسنا نلعب الورق (كونكان 14) فما أحسسنا بالزمن، وفجأة تذكرت أبي والبيت وأمي القلقة، فقفلت راجعاً الى حيث نسكن.. طيلة الطريق وأنا أحس بإحساس مبهم، شئ ما في صدري، شعور غير مريح، شئ أشبه بالخوف، ولكن خوف من لا شئ، خوف من نوع غريب غامض..

ما إن دلفت إلى داخل الحوش حتى أدركت أن شيئاً ما قد حدث.. شئ غير سار.. وجدت أبي وقد بدأت عليه فجأة علامات الكبر، يرقد في عنقريب بدون لحاف- يبدو أنه لم ينتظر حتى يضعوا اللحاف- ورأيت أمي تضع راحتي كفيها على رأسها وتحيط بساعديها جانبي وجهها، وعيناها جاحظتان وهي تحملق في أبي، وسمعت نهنهة فالتفت فإذا اختي تضع وجهها على حجرها وتنتحب.. ماذا جرى؟ لم أستطع أن أسأل هذا السؤال، أو بالأحرى لم اتجرأ على السؤال.. فخوفي من الإجابة حبسني..

– أبوك نشلوه يا ولدي!

طلعت هذه الجملة حشرجة من أمي، بالكاد سمعتها، وبالكاد فهمتها، ولكني لم استوعبها..

قلتي شنو يا أمي؟

قروش البيت اتنشلت من ابوك.. المية جنيه..

كلها؟

وكأني بهذا السؤال اترك لنفسي المجال لاستيعاب ما حدث، لكن يبدو أن عقلي توقف عن العمل.. خزانة الكتب، روايات ارسين لوبين، الاشتراك في النادي الرياضي.. كل هذه ضاعت؟ كل أحلامي تبخرت؟ أين نذهب بعد أن ينزعوا مننا البيت الحكومي؟ حتى مصوغات أمي ضاعت منها إلى الأبد؟ 

قضيت الليل ما أنا بنائم ولا أنا بمستيقظ، كوابيس وقلق ونوم متقطع، وبين اليقظة والكوابيس سمعت صرخة أمي، فقفزت من السرير قبل أن افتح عيوني، فاصطدمت بالترابيزه الموجوده امام السرير وسقطت أرضاً، ونهضت واقفاً وجريت الى مصدر الصرخة فوجدت أمي تقف أمام ابي المضجع في سريره وفمه مرتخٍ جانبه الأيمن، وهو يحاول أن يتكلم ولكن يبدو أنه عاجز عن الكلام.. فبدأ يؤشر بيده اليسرى- وهو لم يكن أيسر- فجرت عيني الى يده اليمنى فوجدتها لا حراك بها.. لقد أصيب أبي بشلل نصفي..

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *