
معتصم عيدروس
كاتب صحفي
• تحدثنا الأسبوع الماضي في هذه المساحة عن الذين أظهروا سوء نيتهم، وفساد أخلاقهم عندما دخلت الميليشيا مدينتنا ودمدني.. من تحول منهم إلى متعاون لبس الكدمول، ومن احترف السرقة عياناً بياناً بدون خجل يتسور حائط جاره، ويحمل ما يستطيعه لبيعه أو لتخزينه في بيته، بل ويكرر الكرة مرات ومرات، حتى ينظف البيت تماماً من ممتلكات أصحابه، ثم يعيد الكرة مع منزل آخر ثم آخر وهكذا دواليك.. هؤلاء كل المدينة تعرفهم، والكثير منهم يتجولون الآن في الطرقات بلا خجل، ولكن ماذا عن آخرين من تجار الحروب، الذين احترفوا السرقة بطرق أخرى؟!
هذه الحرب أظهرت المعدن الحقيقي لأبناء مدينة ودمدني المغتربين، الذين وقفوا مع أهلهم ومع جيرانهم بكل السبل.. فانتظمت التكايا أحياء المدينة بدعمهم، وأرسلت المبالغ للكثيرين من المتعففين الذين أغلقوا أبوابهم عليهم، فلم يستسهلوا السير في درب الحرام، وفضّلوا الموت جوعاً داخل بيوتهم على أن يخلطوا حلالاً بحرام، ليس لسبب سوى الخوف من الله..
سعى الأصيلون من أبناء المدينة الاستثنائية بكل السبل لتخفيف معاناة الصامدين، الذين ظلوا في المدينة حينما داهمها الجنجويد على حين غفلة من سكانها، وبمعرفة المسؤولين الذين هربوا بليل لا يلوون على شيء كأنه يوم القيامة «نفسي.. نفسي.. نفسي».
نجح أبناء المدينة في دول الاغتراب والشتات في جعل الحياة ممكنة إلى حد ما داخل الكثير من الأحياء، بتوفير حق (شد البليلة) لإطعام البطون الجائعة.. ونشهد بأن البعض، ومنهم من أعرفهم شخصياً، قد تكفلوا بهذا الأمر من مرتباتهم الشحيحة، كمبادرة شخصية دفعوا لها جل مالهم، وتولى أهلهم وجيرانهم صناعتها.
المواقف الكريمة لا تعد ولا تحصى، وقد سمعنا الكثير من الإطراء لهؤلاء الذين قدموا مالهم ابتغاء مرضاة الله، ورأفة بأهلهم، ولإيمانهم بقول رسول اﷲ، صلى الله عليه وسلم: «ليس بمؤمنٍ من بات شبعان وجارُه إلى جنبِه جائعٌ وهو يعلمُ»، فما بالك وكل المدينة جوعى، وأفواه أهلها ترنو نحو لقمة تسد الرمق، وإن كانت «بليلة مباشر».. بالتاكيد فالضبيحة وإن كانت من «مكاشر»، باتت حلماً بعيد المنال، فالجنجويد والشفشافة لم يتركوا «جدادة» لأهل المدينة.
هذه النماذج المشرفة بالمقابل كان لها نماذج مضادة من تجار الحروب والباحثين عن الشو والآكلين أموال المنظمات والإغاثات بالباطل، من الذين استغلوا الفرصة للمتاجرة بمأساة هؤلاء، فاكتنزوا مواد الاغاثة، وأدخلوها إلى الأسواق «على عينك يا تاجر»..
شتان ما بين هؤلاء وأولئك، وإن كانت جنات النعيم تنتظر الفئة الأولى، فأنا على ثقة كبيرة بالله أن سيجعل أسوأ مكان في الجحيم محجوزاً لمصاصي الدماء هؤلاء مع فرعون وهامان وجنودهما وسائر الظالمين.
أخيراً..
هرب قبل دخول الجنجويد وهو المسؤول عن المواطنين.. وبعد خروجهم ظل على نفس مواقفه الخائبة فهو لم يقف مع مواطنيه في محنتهم الأولى، والواضح أنه لا يريد حتى أن يجرب بعض ما عانوه من آثار انقطاع الكهرباء ولدغ الباعوض والناموس، فظل يحضر للمدينة صباحاً، ويذهب آخر الليل للمبيت في المدينة التي اتخذها سكناً عند أحد اثريائها.
شارك المقال