نظرة يسار سارة عبدالمنعم

سارة عبدالمنعم

كاتبة روائية

• «لم تكن المرة الأولى التي أبكي فيها لوحدي». 

قالت هذه الكلمات ومجرى حلقها مليء بالعبرات. عيناها غابة أبنوسية. عنابها ذكرني بالنيل. لا أعلم، ربما لجمالها المبهم! وأظنه إغراء سطحها لأعماق قاتله! زادت حدة وجعها التي لفتت انتباهي من تأملها حين تمتمت .. «تخلت عنى أمي حين وهبتني صرخة الميلاد ورحلت بصراخ وعويل الجميع عليها. اللعنة تطاردني، فحين علم أبي بأني ‘فتاة’، قرر التخلي عني. واحتوتني جدتي. أذكر بأنها بترت ذلك الشيء من أعضائي ذات يوم. ظننتها تنتقم لموت ابنتها مني! كنت دائما أهامس طيف أمي التي لا أعرف عنها سوى صورة. أشكو لها واناجيها. أمي قاسية، لم تعدني يوما بأن تأخذني معها. الجميع بحضن أمهاتهن وانا يحضنني الألم، وأتدثر بوحدتي. اشتد عودي، وتغيرت ملامح جسدي، وسمعت الجميع يشيد بجمالي. كل الرجال حولي. وكنت بأمس الحاجة لأول رجل ارتبط به اسمي .. أتعلم، سيزوجونني برجل يكبرني بعمر، ويصغر عني بعقل!». 

أمعنتُ النظر فى عينيها ودمعها يتصبب منهما كمن تضرب مسامه شمس الظهيرة. همست بفرحة غيرت ترنيمة حزنها .. «هذه المرة الأولى التي لم أبكِ فيها لوحدي». تحسستُ خديَّ وتواريتُ فى حديث آخر .. «كم عمرك يا صبية؟ وأين تسكنين؟، قبل أن أواصل هروبي بها ومنها. تنهدت كأنها تشدني لوجعها بقوة .. «عمري عذاب، لم أكترث بحسابه، لكن أمي تُوفيت منذ عشرين عاماً. وأسكن في بلد لا أعرف عنها سوى أنها اختارتني لترسمني باللون الأسود، الذي يعتبره أهلُها ثراء من رحمها» …

شيء ما جعل تلك الصبية التي شاركتني مقعد القطار تستقر في دواخلي. أيثير حزنها شفقتي؟ لا أظن. ربما صدقها؟ لا .. لا، ربما عينيها. «إنَّ كَيدَهُن عَظيمٌ!» ربما هذه فعلتها، ولكنها صغيرة. بماذا تستفيد بكيدها مني؟ 

في ضجة أفكاري هذه، تمنيت احتوائها، وأردت تقبيلها. لم تكن شفتيها قصد شهوتي، ولكن جبينها يستحق من شفتي النيل منه. همست لي .. «شكراً سيدي، فصافرة القطار قد أعلنت محطة الوصول»، بين كيف سألتقيك؟ وإلى أين تذهبين؟ ومع من تسكنين؟ وهل فررت من اهلك؟ ومتى ستخبرينني بقية الحكي؟، كان صوتها الجميل يثير صمتي لاتأمل ابتسامة الرضا والامتنان لي.

همست  في أذني «أبى سيكون بعمرك. أحتفظ له بصورة! أنظر. يشبهك قليلاً، ولكنه أجمل منك، فشعرك أبيض». 

قهقهت وقلبي يعتصره ألمها الذي أثارني منذ البداية. لم أقل شيئاً سوى أنها طفلتي (أقدار)!!

وكانت تلك المرة الأولى التي أبكي فيها لوحدي وبوحدتي..

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *