ناجي الجندي

د. ناجي الجندي

كاتب صحفي

• حينما ترفع أمك سماعة التلفون وتقول لك (كيفنك؟) فقد تكفيك هذه الكلمة عمر كامل، ولما تسألك عن أولادك وعن سبب تأخرك عليها تحس حينها إنك (بني آدم) الاهتمام أمر غالي في هذه الحياة وصعب ونفيس وشبه معدوم في عالم اتخذ من السرعة مبدأ وطريقة وعنوان، الكل مشغول حتى الفارغون مشغولون.

الأم فقط هي من يمكن أن تعطيك هذا الإحساس إنك (بني آدم) ويوم أن ترحل هذه الأم ستندم ندمًا كبيرًا ليس لأنها رحلت بل لأنك أصبحت ليس (بني آدم) أو شعور كهذا، ستندم بأنك قصرت معها ولم تعطها كل شيء، ستندم لأن ثمة (قريشات) تبقت في جيبك لم تدفعها لها كلها، فقد أعطيتها الجزء القليل وأبقيت عندك بعض منها، ستندم لأنك قصرت ولم تحملها على كتفك وتطوف بها بيت الله الحرام، ستندم لأنك في كبرها شاهدت أختك تغسلها وتأكلها وتسقيها الماء وأنت تنظر فقط لأنك (راجل) لم تُخلق لهذا، أو هكذا نحسبها، ستندم لأنك لن تسمع بعد اليوم (كيفنك) ولا أولادك كيفنهم؟، ستندم لأن من أشبعك الحنان والرأفة والسؤال ذهب دون أن تعوضه ما قدمه لك، ستندم لأنك حينها فقط ستفهم بالجد إنه في موت، وستعرف أن الموت لا يُفرق بين أمك وأختك وبنت الجيران وآخر في بلدٍ أخرى.

لذلك كان علينا أن نحتفل بعيد الأم ليس كعيد الكفار مرة في العام، بل علينا أن نحتفل به في تغيير سلوكنا لما كانت تحب، وفي الدعاء لها وفي الإخلاص لكل وصية قالتها والاهتمام بكل تفاصيل كانت تحبها، حتى تستعيض عن تقصيرك فيها، الذي لم يجرب فقد الأم (كلام من مُجَرِّب) عليه من هذه اللحظة لعق حذائها لتنظيفه لها، وتسريح شعرها، وغسل هديماتها، وتعديل مخدتها وأن يُشعرها بأنها (بنية آدم) لأنك حتمًا ستشعر بالندم لما تفارقك وأنت لم تحملها على كفوف الراحة حبًا وردًا للجميل.

خلق الله مثل الأم أناسٌ كُثُر، أولهم الأب وقليل من الأخوة والأحباب، واليوم أريد أن أحدثكم عن من عَوَّضَ جيلًا كاملًا وشعبًا كاملًا عن أمهاتهم وكانت تحسسهم بأنهم (بني آدميين) هي المهندسة المرحومة مروة الطيب حسن أم الخيرين وأم كل من فقد أمه لأنها كانت تُشعرنا بأننا بني آدميين، وكانت تقول لنا (كيفنكم) في كل حين ووقت، مروة الطيب تؤام الإحسان وعمل الخير، نذرت نفسها للناس ولخدمتهم ولم تقل في وجه أحدنا (لا)، نصيرة المساكين مروة التي ضجت بها الأسافير حزنًا وألمًأ ودعاءً، فقددتها خمسة مستشفيات لم تكن تعمل فيهن لكن كانت تكمل كل نواقصها من أجهزة ومعدات وأسِرَّة وإضاءة ومكيفات باختصار قل (كل شيء)، كانت ذات كاريزما مختلفة تتصل تجري تسابق تصر وتطلب ممن يثقون بها حتى كانت تردد في مسمعي عند كل مشروع (أنا الحلبية الشحادة)، وهي (تشحد) للغير ولخدمة الغير لا لنفسها لكن تقول ذلك لأنها عُرفت بحب القفشات والابتسام والمباشرة.

توفيت مروة وهي في عز شبابها النضر لم تُخلف وراءها إلا كل جميل بل أنها (لسان صدق في الآخرين)، أحبابها من أهلها وأصدقائها وزملائها ومنذ وفاتها قبل ثمانية أيام مصدومون ولا يجدون من يؤنس وحشة فقدهم ولا من يربت على كتوفهم لأن هذا كان عملها هي والآن انقطع الحبيب وتوقف الحضن الحنون وسكت شادي الخير، وعض الأنام أناملهم.

ومن لنا بعدك!؟.

وداعًا مروة وداعًا أم الخير وإلى جنات الخلد.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *