مهرجان الكرة والهوية السودانية في قلب ولاية ميتشجان

87
pic06
Picture of نفيسة زين العابدين -  شيكاغو

نفيسة زين العابدين - شيكاغو

• رحم الله الفنان الكابلي حين أنشد وغنى: يا قمر دورين أنا شفتك وين… طبعًا في الليل.. في ضفاير النيل، في رمالٍ سهرانةٍ وراجياك تسيل، في دموع الساقية يرنو ليها نخيل، في وجوهٍ فرحانةٍ عامرةٍ بالتهليل، في عيونٍ نعسانةٍ غارقةٍ في التكحيل،

وكل ديل في وطني…

في اعتقادي، أن الوطن ليس أرضًا وحدودًا وبيوتًا فقط.. الوطن هو إرث متكامل يمكن تفعيله وتشكيله في أي وقت وأي مكان، وتحت أي ظروف، فقط نحتاج لمن يشاركنا الإرث نفسه والحب نفسه.

السودان في ميتشجان

هنا في بقعة من أرض ولاية ميتشجان بالولايات المتحدة رأيت الخرطوم، والتي هي قلب السودان، بأم عيني. عشت فيها يومين أحاول هنا، في هذه المساحة، أن أنقل بعض ما استطيعه من صور وحقائق.. لكن هناك أشياء لا يمكن وصفها أو كتابتها.. أشياء تُحَس فقط في لمعان عيون الصغار، وحنين الكبارلأوطانهم. في رائحة الطعام ومذاقه، في لوحات ومشاهد مالوفة للعين، وقريبة من القلب. رأيت السودان شماله وجنوبه، شرقه وغربه في سحنات هذا الشعب الذي لا يمكن تفريقه بالعنصرية والتهميش والاستيلاء على أرضه وبيوته وممتلكاته. فالإنسان السوداني، الذي يحمل هويته على جبينه وفي قلبه، يستطيع أن يعيد بناء وطنه في أي مكان وفي كل وقت. فلا يمكن أن تضيع أمة ما زالت تتحسس جذورها وتسقيها من حين لآخر.

الفعالية بين التنظيم والتحديات

تشرفت وسعدت بحضور فعالية اتحاد الكرة السوداني الأميركي “Sudanese American Soccer Federation” في دورته لهذا العام 2025، والذي أقيم في ولاية ميتشجان بتاريخ 30 و31 أغسطس، والذي عُني بتأبين ذكرى الفنان الراحل الأستاذ عبد الكريم الكابلي تحت عنوان: (أكيد حنتقابل).

بالتأكيد لم يكن التميز والنجاح الذي حظيت به هذه الفعالية آتيًا من فراغ، فقد كانت نتيجة جهد ضخم بُذل من قبل المنظمين لها. في هذه المساحة، أحاول أن أنقل رؤى بعض من سمح وقتهم بأن أطرح عليهم بعض الأسئلة، وعلى رأسهم د. سيف الأسد، رئيس اللجنة المنظمة لفعالية ساسف، والأستاذة سارة شاطر، مسؤولة اللجنة الثقافية والفنية، ود. نون صديق. كما سأتعرض لرؤية بعض العابرين مثلي حول هذا المهرجان الكبير الذي احتضنته ولاية ميتشجان.

تركزت تساؤلاتي حول اختيار ولاية ميتشجان لاستضافة هذه الدورة، والاستعدادات وما استغرقته من وقت، وما تخللها من تحديات وعقبات، والدروس المستفادة من هكذا حدث، وما يجب تضمينه وتلافيه مستقبلًا. كما توقفت قليلًا عند فقرات البرنامج الثقافي.

الدكتور سيف الأسد، رئيس اللجنة، والذي عرّف بنفسه بأنه من أبناء ود نوباوي بأم درمان، يقيم بولاية ميتشجان منذ العام 1990، ويُعتبر هو ونفر من زملائه الأطباء السودانيين أول من ساعدوا وفتحوا الطريق لزملائهم في المنطقة.

د. الأسد هو رئيس منظمة يوكانا “University of Khartoum Alumni”، كما يشغل منصب مدرب فريق ولاية ميتشجان، ومتعاون مع كل المنظمات السودانية الموجودة على الساحة. يعتبر الدكتور الأسد من أوائل السودانيين الذين حملوا السودان معهم إلى أميركا.

عن اختيار ولاية ميتشجان لاستضافة دورة ساسف 2025، يقول د. الأسد أنها ليست بالمرة الأولى التي تستضيف فيها الولاية هذه الفعالية، فقد سبق واستضافتها في العام 2011 تأبينًا لذكرى الدكتور حمادة بلة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت هذه الدورة تُقام كل عام في ولاية مختلفة، بل إن بعض الولايات قامت باستضافتها على أراضيها أكثر من مرة.

وعبر د. الأسد عن أنهم في ميتشجان كانوا متخوفين من العدد الكبير للسودانيين الذين يحرصون على حضور هذا الحدث ويتوافدون من جميع أنحاء الولايات المتحدة الأميركية. يقول: «لكننا تغلبنا على مخاوفنا وقررنا استضافة دورة هذا العام، وبالفعل تم التخطيط والتنفيذ، والحمد لله تلقينا الكثير من الدعم».

كما أضاف بأنهم كانوا موفقين في استضافة هذا العدد الكبير وتوفير الطعام. وأشاد بتنوع فقرات البرنامج الثقافي، وبالنجاح الذي حظيت به المباريات التي اقيمت بين الفرق المشاركة، والتي انتهت المنافسة بينها بفوز فريق ولاية فيلادلفيا بكأس الدورة، والذي تم تكريمه وبقية الفرق في الحفل الختامي الذي أحياه الفنان مصطفى السني.

وعن عدد الفرق المشاركة، ذكر د. الأسد أن هذه الدورة شارك فيها ستة عشر فريقًا من مختلف الولايات الأميركية بما في ذلك ولاية ميتشجان.

أما عن الاستعدادات لمثل هكذا حدث ضخم يُعد أكبر تجمع للسودانيين في أميركا، فيقول د. الأسد إنه تم الإعلان عنه عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. وكفعالية ضخمة فهي بالتأكيد تحتاج أيضًا لميزانية كبيرة. وعن هذا الجانب، يوضح د. الأسد أن التكلفة تراوحت بين 150000 – 200000 دولار، وكان لأبناء ولاية ميتشجان الفضل الأكبر في المشاركة بالتبرعات لجمع هذا المبلغ. يقول: «تلقينا جزءًا بسيطًا من منظمة ساسف مقارنة بالميزانية الكلية للفعالية، والتي كان جلها من مساهمات أبناء ولاية ميتشجان».

كما عبرت الأستاذة سارة شاطر عن سعادتها الكبيرة بهذا العدد الهائل من الحضور، وشبهت الاستعدادات لهذا الحدث بعرس كبير. قالت، وبابتسامة حب كبيرة على وجهها: «وكأننا في بيت عرس». ثم أضافت: «نأمل أن نكون قد نجحنا، وأن يكون الحضور قد سعدوا بقضاء وقت جميل معنا، وأن نكون قد تركنا انطباعًا ايجابيا لديهم».

عن الجهد والنظام الذي اتُّبع من جانبهم كلجنة منظمة ليخرج هذا الحدث بهذه الصورة الآمنة والهادئة، والجميلة والمنظمة، قال د. الأسد إنهم جميعًا كانوا حريصين على توفير عنصري الأمن والسلامة، وتجنب الأمور التي تُثير الشغب. وذكر أنه لعامين متتاليين، في دورات اتحاد ساسف، تم إلغاء المباريات النهائية بسبب الشغب والثغرات الأمنية. لذلك، تفاديًا لمثل هكذا مشاكل، قاموا كلجنة منظمة بإغلاق جميع المنافذ المؤدية لمكان الحدث عدا مدخل واحد، وتم استخدام أجهزة كشف المعادن للتأكد من خلو المكان من الأسلحة. كما تم الاستعانة بأفراد من الشرطة لحفظ الأمن، وتكوين لجنة خاصة ببسط الأمن وضعت قوانين صارمة جدًا في حال ضبط أي نوع من الأسلحة بحيازة أحد الحاضرين، حيث يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة ومحاسبته قانونيًا ومنعه من دخول المكان. وأيضًا بالنسبة للفرق الرياضية المشاركة تم التأكيد عليها بالالتزام بالقوانين وعدم إثارة الشغب، وفي حال عدم التزامهم بالشروط سيتم استبعادهم مستقبلًا من المشاركة في الدورات القادمة. كما أضافت سارة  بأن من ضمن إجراءات الأمن والسلامة كان تزويد الحضور بأساور عليها اسم الولاية التي جاءوا منها، مما سهل كثيرًا وساعد في تنظيم الحضور و التعرف على الأطفال الذين ضلوا الطريق إلى ذويهم.

وأكد د. الأسد أن العمل على تأمين وسلامة الجمهور كان التحدي الأول بالنسبة لهم كلجنة منظمة، يليه التحدي الثاني وهو توفير الطعام بكميات كبيرة تكفي حاجة الآلاف من الحضور، وقد تم تجاوزه بتعاون الجالية السودانية في ميتشجان، والذين وصفتهم سارة بأن كل بيت شارك بما يستطعيه في هذه الفعالية.. أما التحدي الثالث فكان البحث عن مكان يسع هذا العدد الضخم من الحضور، وقد تم تجاوزه أيضًا بحمد الله.

عن الوقت الذي استغرق تنظيم هذا الحدث الضخم، يقول د. الأسد إنه استغرق شهرين ونيف، منذ أن تكوّنت اللجنة العليا وتفرعت منها لجان تعتني بكل جانب من الجوانب: لجان لجمع المساهمات والتبرعات المالية، الأمن والسلامة، الثقافة والفنون، المواصلات، توفير وتنظيم الطعام، النظافة، وغيرها من اللجان المختلفة. ويضيف أن توزيع العمل بهذه الطريقة خلق نوعًا من الترابط القوي بين أبناء ميتشجان والجاليات السودانية الأخرى في أميركا. ويؤكد: «وهذا العمل الجماعي كانت نتيجته ما ترونه الآن!»

وعن تجربته كرئيس للجنة تنظيم هذا الحدث، سألته عن الإيجابيات التي خرج بها ويمكن تضمينها في دورات قادمة، وعن السلبيات التي يجب تفاديها. عبر د. الأسد بقوله، بأنه ليس من السهل العمل على مثل هذه النوعية من الفعاليات التي تستضيف هذا العدد الكبير من الناس، لذلك على المنظمات الأخرى في مختلف مدن وولايات أميركا أن تتعرف على بعضها وتتعاون فيما بينها، وتتبادل الخبرات، وتستفيد من التجربة. كمثال، ذكر د. الأسد منظمة «صدقات» التي توفرت لها خيمة في أرض الفعالية لجمع تبرعات خاصة بها. وأضاف أن هناك منظمات أخرى كثيرة في طريقها للتكوين، كمنظمة خاصة بالموسيقيين والفنانين تُعنى بالجانب الثقافي. كما أوضح أنه يمكن أن تتم هذه الفعاليات بحرفية عالية إذا ما تم التنظيم والتعاون بشكل منظم وجاد واحترافي. وتضيف سارة أن عمل اللجان المنظم يخلق فرقًا كبيرًا في تجويد العمل وتسهيله وحل المشاكل.

أما عن السلبيات التي يرى أنه يمكن تفاديها مستقبلًا فهي التساهل في بعض الأمور، وعدم الالتزام بالوقت المحدد. كمثال، ذكر د. الأسد أنه بالرغم من الإعلان المكثف لاستضافة الفعالية وتشجيعها لأصحاب الأعمال الصغيرة والبازارات، إلا أن البعض لم يلتزم بالتقديم في الموعد المحدد. يقول: «اضطررنا لقبول طلباتهم رغم أنها جاءت متأخرة، وذلك يعيق سير وتنظيم العمل بالصورة المرجوة، لكننا تجاوزنا هذا الأمر بتوفير عدد إضافي من الخيم». وأكد على أهمية احترام الالتزام بالوقت والمواعيد، كسلوك حضاري.

في رؤيتها لما يمكن تفاديه من سلبيات، تقول سارة: «ما يمكن تجنبه مستقبلا هو التخلي عن المسؤولية المجتمعية فيما يخص جانب الاهتمام بنظافة المكان كمرفق عام، فمن المهم أن يحرص الجميع على النظافة، الأمر الذي سيعكس صورة جميلة وحضارية للإنسان السوداني بأنه مسؤول ومتعاون».

أما عن انطباعات الحضور عن هذه الفعالية، فقد كانت إيجابية للغاية. أعمار مختلفة أبدت إعجابها بالت نظيم، وروح التعاون والتعامل الراقي. كما أكد بعض الذين حضروا الدورات السابقة أن هذه المرة الأمر يبدو مختلفًا ويبدو أكثر تنظيمًا وإجادة.

أجيال وهوية

يختم د. الأسد حديثه معي فخورًا بأنهم، كأبناء ولاية ميتشجان، يُعدّون من أوائل السودانيين الذين هاجروا لهذه الأرض، لكن سودانيتهم بقيت كما هي، يقول: «نحن نحمل السودان بكل جماله في قلوبنا، حافظنا على القيم الأصيلة للمجتمع السوداني من الكرم وحسن الضيافة والاحتفاء بالآخرين وسعة الصدر».

نعم يا سيدي، أصبت.. وأنا أشهد لكم بذلك!

ما لفت انتباهي في فقرات البرنامج الثقافي أن أغلب الفقرات كانت تستهدف الأطفال والمراهقين، كما أن الفئة العمرية للحضور كانت جلها من هاتين الفئتين. والجميل أن اللغة المستخدمة هي اللغة العربية واللهجة السودانية، مع وجود لا يكاد يُذكر للغة الإنجليزية، على الرغم من أنها اللغة الأولى لهذه الأعمار.

سألت الأستاذة سارة شاطر ود. نون صديق عن إذا ما كان هناك تخوف من ضعف مهارة إجادة العربية عند أطفالنا بهذا المستوى المتقدم، فجاء الجواب بأنهم، كلجنة ثقافية، قصدوا استهداف النشء الصغير وتعريفه بهويته الأم وبالوطن الكبير. وقد شارك في هذا الجانب أطفال من عمر السادسة وحتى الثامنة عشرة، ونجاح هؤلاء الأطفال يُعتبر بمثابة رسالة للأسر بأنه بمقدورهم ربط أطفالهم بجذورهم وإرثهم الثقافي المتنوع. وتضيف الأستاذة سارة بأنها لم تتخيل أبدا أن يقف طفل في السادسة ليغني «دنيتنا الجميلة»، أو أن يكون قادرًا على أداء أوبريت باللغة العربية في وقت وجيز. وتضيف د. نون أن القصد كان تعزيز الهوية السودانية وتعريف النشء بالسودان شماله وجنوبه، شرقه وغربه، والتعرف على الهوية الثقافية للإنسان السوداني المتعدد الأعراق واللغات.

تشارك د. نون تجربتها في تدريب الأطفال على أداء الأغنيات بأنها بدت لهم في البداية وكأنها طلاسم، لكن مع المواظبة على التدريب وشرح المعنى أحب الأطفال ما يقومون به، وأصبحوا يدندنون بكلمات الأغاني وحفظوها عن ظهر قلب. كما تؤكد على أن من المهم تعريف أطفالنا بجذورهم والانتماء إليها، لأن أميركا قارة متعددة الأعراق، ونحن كسودانيين كل منا لديه جذوره التي يفخر بها.

لم يكن أبناء السودان في ميتشجان وحدهم من سعى لمشاركة ما لديهم مع الغير، بل كانت هناك لفتة جميلة من دولة الأردن تمثلت في شخص المهندسة بشرى المجالي، التي ارتدت ثوبًا سودانيًا تقليديًا مطبوعًا بعلم السودان. شاركت بشرى بتقديم الطعام، مؤكدة أنها فخورة بأنها استطاعت أن تكون جزءا من هذا الحدث الجميل، وأنها فخورة بمعرفتها وصديقاتها من الجالية السودانية.

في ميتشجان، تحوّل المهرجان إلى مساحة عامرة بالوطن، حيث اجتمع السودانيون ليؤكدوا أن الهوية لا تعرف الغياب، وأن السودان يسكن في القلوب مهما ابتعدت المسافات. كان الاحتفاء بالكرة والفن مناسبة لإعادة اكتشاف معنى الانتماء، وتجديد العهد مع القيم الأصيلة للوطن. وهكذا بدا واضحًا أن السودان، أينما ارتحل أبناؤه، يظل وطنًا حيًا متجددًا… و..أكيد حنتقابل.

 

شارك التغطية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *