
أ. د. فيصل محمد فضل المولى
أكاديمي وباحث مستقل
مقدمة: الحكمة التي تعبر الأزمنة
• حين قال ألبرت آينشتاين «إن الحل لمشكلة ما لا يكمن غالبًا في البُعد نفسه، بل في بُعد أعلى»، كان يقصد من زاوية الفيزياء أن المشكلات الكبرى لا تُحل ضمن القوانين التي وُلدت فيها، بل بالانتقال إلى مستوى أوسع من الفهم. لكن ما يجعل هذه المقولة خالدة هو أنها لا تنطبق على الفيزياء وحدها، بل على مصائر الشعوب كذلك. في السودان، يمكن لهذه المقولة أن تكون مفتاحًا لفهم مأزق بلد ظل عالقًا لعقود في صراعات لا تنتهي. فكلما خرج من حرب دخل أخرى، وكلما بشّر بثورة أعادت إنتاج أزماته.
السودان ليس مجرد حدود مرسومة على الخريطة، بل هو ذاكرة مثقلة بالتجارب، وهوية تبحث عن ذاتها بين العروبة والأفريقانية، وبين الدين والدولة، وبين المركز والهامش. إنّ عمق أزمته لا يكمن في ندرة الموارد أو قسوة الطبيعة، بل في غياب القدرة على القفز إلى البُعد الأعلى من التفكير الجمعي. وهنا يصبح قول آينشتاين دعوةً ملحّة: أن نتحرر من أسر العقلية التي ولّدت الصراع لنصنع عقلية جديدة تفتح باب الخلاص.
إنّ أهمية هذه المقولة في السياق السوداني لا تكمن في جمالها الفلسفي فقط، بل في كونها وصفًا دقيقًا لمسار بلد ظل يكرر نفسه. فمنذ الاستقلال وحتى اليوم، ظل السودان يعيش في دائرة الأزمة ذاتها: السلطة كغنيمة، والهُوية كسلاح، والآخر كعدو. فكل نظام جديد، بدلًا من أن يفتح أفقًا للعدالة والتنمية، كان يكتفي بإعادة إنتاج البنية القديمة: إقصاء للخصوم، استغلال للموارد لمصلحة قلة، وتوظيف الدين أو العرق أو الجهة كوسيلة للسيطرة.
واليوم، ونحن في قلب الحرب الدائرة منذ أبريل 2023، يتجلى هذا المنطق بأبشع صوره. العاصمة الخرطوم تحولت إلى ساحة خراب، ملايين الناس شُرّدوا في الداخل والخارج، والمجاعات تضرب مناطق بأكملها، فيما تتعامل الأطراف المتحاربة مع السلطة وكأنها غنيمة شخصية لا مشروع وطني. الهويات لا تزال تُستعمل كذخيرة سياسية، فتُعمّق الانقسامات بدل أن تُبنى جسور الثقة. أمّا المواطن العادي، فقد أصبح مجرد رهينة تُستخدم معاناته في المساومات السياسية والإقليمية.
هذه اللحظة السودانية تعكس بوضوح معنى كلام آينشتاين: لا يمكن الخروج من الأزمة بالأدوات نفسها التي صنعتها. لا يمكن أن نكرر الانقلابات ثم نتوقع ديمقراطية، أو نعيد تدوير النخب ذاتها ثم نحلم بعدالة جديدة، أو نستدعي لغة السلاح ثم نتوهم سلامًا دائمًا. الخروج الحقيقي يتطلب وعيًا جديدًا يبدل منطق اللعبة بأكمله، وينقلنا إلى بُعد أعلى حيث تُصاغ الدولة من جديد على أسس المواطنة والمشاركة لا على منطق الغلبة والإقصاء.
أسر البُعد نفسه: الحلقة التي لا تنكسر
منذ الاستقلال عام 1956، ظل السودان يدور في حلقة مفرغة. الانقلابات العسكرية تعقبها حكومات انتقالية هشة، ثم عودة إلى الدكتاتورية. كل انقلاب يَعِد بالنهضة لكنه يفتح بابًا لأزمة جديدة. كل ثورة شعبية تهتف بالحرية والسلام والعدالة، لكنها تُختطف من قِبل النخب ذاتها التي أعادت إنتاج الاستبداد.
الحروب التي شهدها السودان – من الجنوب إلى دارفور، ومن الشرق إلى جبال النوبة – لم تكن مجرد نزاعات مسلحة، بل انعكاس لبنية سياسية مشوهة. كانت السلطة دائمًا تُدار من المركز، بينما تُهمَّش الأطراف. وكانت الهوية الوطنية تُختزل في لون واحد وثقافة واحدة، بينما الواقع أكثر تعددًا وتعقيدًا. هذا هو البُعد نفسه الذي تحدث عنه آينشتاين: الإصرار على معالجة الأزمات بالمنطق ذاته الذي أنجبها، فيستمر الدوران بلا نهاية.
البُعد الأعلى: فتح أفق جديد
البُعد الأعلى لا يعني الخيال أو المثالية، بل يعني القفز خارج القفص العقلي الذي حُبست فيه السياسة السودانية. هو انتقال من منطق «من يحكم» إلى منطق «كيف نحكم». من عقلية الغلبة إلى عقلية المشاركة. من إقصاء الآخر إلى الاعتراف به. من التعامل مع الهويات باعتبارها تهديدًا إلى اعتبارها مصدر غنى.
البُعد الأعلى في السودان يعني إعادة بناء الدولة على أسس جديدة: دولة مواطنة، لا دولة محاصصة. دولة قانون، لا دولة سلاح. دولة مؤسسات، لا دولة أفراد. هذا الانتقال ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية.
التاريخ السوداني: دوامة الوعد المبتور
إذا تأملنا مسيرة السودان منذ الاستقلال، نجد أن كل محطة تاريخية كانت وعدًا مبتورًا. ثورة أكتوبر 1964 كانت لحظة عظيمة، لكنها سرعان ما عادت إلى قبضة الجيش. ثورة أبريل 1985 أنهت حكم نميري، لكنها مهدت الطريق لانقلاب جديد في 1989. ثورة ديسمبر 2018 قدّمت أعظم نموذج للتضحيات الشعبية، لكنها اختُطفت هي الأخرى حتى انتهت البلاد إلى حرب شاملة في 2023.
الحروب كذلك تُظهر الدوامة نفسها. اتفاقية أديس أبابا 1972 أوقفت الحرب لكنها لم تحل جذور الهوية والتنمية، فعادت الحرب أكثر شراسة. اتفاقية نيفاشا 2005 أنهت أطول حرب أهلية لكنها قادت إلى انفصال الجنوب، دون بناء سودان جديد في الشمال. اتفاق جوبا 2020 وقع بين نخب مسلحة وحكومة انتقالية، لكنه لم يصمد أمام اختبار الواقع. في كل هذه الحالات، كان الحل في البُعد نفسه: وقف مؤقت للنزيف، لا معالجة للجذور.
فلسفة البُعد الأعلى: وعي جديد
الانتقال إلى بُعد أعلى يعني إدراك أن الأزمة ليست مجرد صراع سياسي، بل أزمة وجودية في مفهوم الدولة. فالدولة السودانية، منذ ميلادها، لم تُبنَ على أسس صلبة. لم يكن هناك عقد اجتماعي متفق عليه. لم تكن هناك مؤسسات قوية قادرة على حماية الديمقراطية. لم يكن هناك تصور جامع للهوية.
البُعد الأعلى يعني أن يُعاد التفكير في السودان كفكرة، لا فقط كحدود جغرافية. أن يُبنى عقد اجتماعي جديد يعترف بكل أبنائه. أن يُعاد تعريف الهوية الوطنية بحيث تشمل الجميع لا أن تُقصي أحدًا. أن تُبنى الدولة على أساس العدالة في توزيع السلطة والثروة، بحيث لا تبقى مناطق كاملة وقودًا للحروب بسبب تهميشها المستمر.
دروس من تجارب الآخرين
التاريخ العالمي مليء بالشواهد التي تُظهر أن الخروج من الأزمات يتطلب بُعدًا أعلى. جنوب أفريقيا اختارت طريق الاعتراف والمصالحة بدلًا من الانتقام. رواندا تجاوزت الإبادة الجماعية عبر مشروع تنمية شامل وهوية جامعة. إسبانيا بعد فرانكو نجحت في الانتقال الديمقراطي، لأنها تبنّت دستورًا جديدًا يضمن الحريات. ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لم تُعد إنتاج النازية، بل بنت ديمقراطية قوية صمدت حتى اليوم. البوسنة، رغم تعقيداتها، خرجت من حرب أهلية دامية إلى اتفاق دولي (دايتون) وضع أسسًا جديدة للسلام.
هذه الأمثلة كلها تؤكد أن الشعوب لا تخرج من الأزمات بإعادة إنتاج المنطق القديم، بل بالانتقال إلى منطق جديد.
ملامح البُعد الأعلى في السودان
يمكن أن نلخص ملامح البُعد الأعلى في السودان في خمس نقاط رئيسية:
1. عقد اجتماعي جديد يقوم على المواطنة المتساوية، ويضمن الحقوق الأساسية لكل فرد.
2. عدالة انتقالية تعترف بالجرائم وتمنح الضحايا حقهم وتفتح الباب للمصالحة.
3. هوية سودانية جامعة تعترف بالتعدد وتحوّله إلى مصدر قوة.
4. تنمية متوازنة تُنهي احتكار المركز للثروة وتعيد توزيع الموارد على الأقاليم.
5. قيادة فكرية وأخلاقية جديدة تعيد تعريف السياسة كخدمة عامة لا كغنيمة.
من أسر اللحظة إلى أفق التاريخ
أحد أكبر أخطاء السياسة السودانية هو إدارة الصراع بعقلية اللحظة: من يربح المعركة اليوم؟ من يسيطر على العاصمة غدًا؟ من يوقّع الاتفاق بعد أسبوع؟ هذه عقلية قصيرة النظر. أما البُعد الأعلى فهو أن نفكر في السودان على مدى عقود وقرون، لا على مدى أسابيع وأشهر. أن نرى السودان كبلد قادر على أن يكون قوة زراعية عالمية، ومركزًا للمعرفة، وجسرًا بين أفريقيا والعالم العربي.
دعوة إلى القفزة
إن مقولة آينشتاين ليست مجرد عبارة للتأمل، بل دعوة إلى فعل تاريخي. السودان اليوم أمام خيارين: إما أن يظل أسير البُعد نفسه، فيعيد إنتاج الدماء والخراب جيلاً بعد جيل، وإما أن يصعد إلى بُعد أعلى، حيث تُبنى الدولة على العدالة والمواطنة والتنوع.
القفزة المطلوبة ليست في تغيير الأشخاص فقط، بل في تغيير الذهنية. ليست في وقف حرب مؤقتة، بل في بناء سلام دائم. ليست في تقاسم السلطة، بل في تأسيس وطن حقيقي. السودان لا يحتاج إلى حلول جزئية، بل إلى إعادة اكتشاف نفسه في بُعد جديد، حيث يصبح الأمل ممكنًا، ويصبح الجرح قابلًا للالتئام.
هذه القفزة لا تقتصر على السياسيين أو النخب، بل هي مسؤولية جماعية. تبدأ من الوعي الشعبي، من التربية والتعليم، من إعادة صياغة خطاب الإعلام والدين والثقافة. تبدأ حين يدرك السودانيون أن بلدهم ليس مجرد مساحة نزاع، بل فضاء واسع يمكن أن يكون نموذجًا للتعايش الإنساني.
السودان لن يُشفى من جراحه إلا حين ينظر أبناؤه إلى المستقبل لا كحلم بعيد، بل كخيار حتمي. إنّ اعتناق البُعد الأعلى يعني أن نعيد ترتيب علاقتنا بالزمن:
أن نكسر أسر اللحظة ونفكر في قرن قادم، أن نتجاوز أحقاد الماضي ونبني ذاكرة مشتركة، أن نُبدل الخوف بالأمل واليأس بالإصرار.
عندها فقط يصبح قول آينشتاين حقيقة سودانية: الحل لن يأتي من البُعد نفسه، بل من بُعد أعلى، حيث يُولد وطن جديد يستحق الحياة.
شارك المقال