
د. خالد مصطفى إسماعيل
كاتب صحفي
• في بلد كبير وعريق تتعدد فيه اللغات والألسنة كواحدة من أشكال التنوع التي يتميز بها هذا السودان.
وواحدة من أزمات السودان الكبير هي عدم القدرة على إدارة هذا التنوع بكل أشكاله، مما خلق إشكالات عديدة ندفع ثمنها جيلاً بعد جيل حتى الآن.
فالتنوع اللغوي حقيقة ماثلة في السودان يعرفها السودانيون وغيرهم. بالرغم من أن معظم السودانيين الآن يتحدثون اللغة العربية كلغة تواصل فيما بينهم، ويفهمونها جميعاً بسبب تأثير الدين الإسلامي الذي يدين به معظم السودانيين. فاللغة العربية أتت محمولة على ظهر الدين الإسلامي، وتوطدت كلغة عبادة، ومن ثم أصبحت لغة تواصل بعد انتشار الإسلام، ولا نريد في هذا المقال أن نسترسل في تاريخ اللغة العربية في السودان، ولكن لا بد أن نعرف أن كثيراً من الذين يتحدثون اللغة العربية في السودان لديهم لغات خاصة (لغات أم)، يتحدثون بها فيما بينهم كمجموعات لغوية أو قبائل، ولم تكن هناك مشكلة في ذلك في بادئ الأمر ، فقد ظلت اللغة العربية في تعايش تام مع اللغات المحلية، وظل السودانيون يتحدثون اللغة العربية جنباً إلى جنب مع لغاتهم المحلية الخاصة في انسجام تام وتناغم، ولكن أظن أن اللغة أصبحت مشكلة في مرحلة من المراحل، بسبب تأثير عوامل لا يسع المجال لذكرها، فأصبح احتقار اللغات المحلية أمراً شائعاً في المجتمع والدولة؛ مما حدا بتسميتها (رطانات) مفردها (رطانة)، بدلاً عن (لغات)، في احتقار واضح لهذه اللغات المحلية، وبالتالي لأهلها المتحدثين بها، بوعي أو بدون وعي.
فالرطانة في اللغة العربية تعني الكلام غير المفهوم. فتأملوا! وأحياناً يتفلسف بعض الناس ويسمونها (لهجات)، وهو أيضاً استخدام غير صحيح، فهي لغات كاملة الدسم وليست لهجات، لأن اللهجة جزء من لغة، فمثلاً اللغة العربية لديها لهجات كثيرة منها اللهجة السودانية، واللهجة المصرية، واللهجة الخليجية، واللهجة المغربية…. إلخ، وكلها لهجات من لغة أم هي (اللغة العربية).
والدولة الحديثة في السودان منذ بدايات تكوينها ونشأتها كانت لديها اليد الطولى في محاربة هذه اللغات محاربة رسمية، فالدولة الحديثة في السودان منعت استخدام هذه اللغات منعاً باتاً في المدارس، وفرضت استخدام اللغة العربية أو الإنجليزية فقط، وكل من يتحدث بلغته المحلية في المدرسة حتى ولو كان ذلك خارج الفصل يعاقب عقاباً صارماً، ووصل الأمر لدرجة تجنيد الطلبة للتخابر على بعضهم البعض، فإذا سمع أي تلميذ زميلاً له يتحدث بلغته المحلية يبلغ عنه الأساتذة فوراً لتتم معاقبته. والأدهى والأمر أن الأساتذة الذين يعاقبون التلاميذ على ذلك قد يكونون من مجموعاتهم اللغوية نفسها.
والسؤال الذي يطرح نفسه، ماذا يضير الدولة السودانية إذا تحدث الناس بهذه اللغات؟
فكل منطقة لديها تجاربها الخاصة مع هذا النوع من التعسف، وهنا تحضرني طرفة من منطقتنا في تقلي..( اشتكى أحد التلاميذ في الفصل إلى الأستاذ بأن زميله تحدث باللغة المحلية (رطن)، وكان هذا جريمة يعاقب عليها. فسأل الأستاذ التلميذ المشكو (هل رطنت؟) فرد التلميذ قائلاً : والله (أوباك). والكلمة بلغتنا المحلية تعني (الكذب)، فهو بذلك ينفي التهمة عن نفسه بأنه (لم يرطن)، وأن زميله الشاكي كاذب.. فما كان من الأستاذ إلا أن قال له: «خليك من الفات هسع انت رطنت قدامي وقلت (أوباك) عشان تنفي التهمة عن نفسك». وتمت معاقبته. وقس على ذلك من أشكال المعاناة التي يمر بها الذين لم تكن العربية لغتهم الأم خلال مسيرتهم التعليمية.
وتحت هذه الضغوط تخلى كثير من الناس عن لغاتهم المحلية، وفي أحيان كثيرة تنكروا لها، واستبدلوا بها اللغة العربية، خاصة مع نشوء المدن وهجرة الناس من الأرياف إلى المدن ذات التنوع الكبير، فأصبحوا يستخدمون اللغة العربية كلغة مشتركة يتحدث بها كل السودانيين، واكتفوا بذلك، وأصبحت أجيالهم اللاحقة لا تعرف شيئاً عن لغاتهم الأم. وعندما يأتي زائراً من الأرياف إلى المدن تجده يتحدث مع كبار السن فقط بلغته المحلية، أما الأبناء فلا يفقهون شيئاً عن لغتهم الأم. فالهجرات سواء كانت داخلية من الأرياف إلى المدن أو خارجية، ساهمت مساهمة كبيرة أيضاً في اضمحلال اللغات المحلية.
لا نريد أن نتلاوم ونقف كثيراً عند الماضي، فقد دلق الناس حبراً كثيراً في ذلك، وأبانوا، ووضحوا، وتشاجروا، ولكننا نريد أن نخطو خطوة إلى الأمام، فواحدة من الإصلاحات التي يفترض أن يقوم عليها السودان الجديد ما بعد الحرب، هي الاعتراف بهذه اللغات، ورد الاعتبار لها، وكتابتها، والاهتمام بها، لأنها جزء من الموروث الثقافي السوداني المتنوع، فهذه اللغات ليست مجرد كلمات يتحدث بها أصحابها، فهي تحمل موروثاً ثقافياً ضخماً، وتجارب يمكن الاستفادة منها، وحكمة وأدباً وغيرها.
وهذا لا يعني الانكفاء، بل نهتم بلغاتنا ونطورها ونمجدها، ونعتز بأن عندنا عدداً كبيراً من اللغات المحلية، وفي الوقت نفسه نتعلم جميع اللغات الأخرى حسب ما هو متاح، للتواصل مع بقية شعوب العالم، والانفتاح عليها، والاستفادة من تجاربها. مع الاحتفاظ باللغة المشتركة التي تجمع كل السودانيين، وهي اللغة العربية كلغة تواصل، خاصة اللهجة السودانية المميزة، التي هي نتاج تفاعل اللغة العربية مع البيئة المحلية والثقافة المحلية واللغات المحلية، بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية التي أصبحت ضرورة لا بد منها في العصر الحالي.
لم أتحصل على إحصاءات رسمية من الدولة، توضح عدد اللغات المحلية، وأماكن انتشارها وغيره، ولكن إذا درسنا خريطة السودان نجد فيه لغات عديدة تتوزع بين شمال السودان وجنوبه وغربه وشرقه، وحسب معلومات من الإنترنت، فإن السودان توجد فيه أكثر من مائة لغة محلية، تتفرع منها أكثر من خمسمائة لهجة.
فعلى سبيل المثال نجد في شرق السودان اللغات البجاوية، وفي شمال السودان اللغات النوبية مثل الدنقلاوية والمحسية والحلفاوية. وفي غرب السودان اللغات الدارفورية مثل لغة الفور ولغة المساليت ولغة الزغاوة. وفي جنوب السودان الجديد (بعد انفصال السودان) نجد لغات جبال النوبة ذات التنوع الكبير. وغيرها من اللغات السودانية.
وإذا عرفنا أن منطقة جبال النوبة وحدها بها أكثر من ثلاثين لغة، مقسمة على عشر مجموعات لغوية، وجبال النوبة هي إقليم صغير أو ولاية واحدة من ولايات السودان، فسنعرف مقدار التنوع اللغوي المدهش في السودان.
أما بالنسبة للغات الرسمية ففي دستور عام ٢٠٠٥م لجمهورية السودان تم إقرار اللغة العربية الفصحى، واللغة الإنجليزية، لتكونا اللغتين الرسميتين للدولة.
لا أملك خطة مفصلة عن كيفية المحافظة على اللغات المحلية، ولكني أعلم أن هناك متخصصين في هذا المجال، أرجو أن يفصلوا لنا أكثر في هذا الشأن، ليكون برنامج عمل تتبناه الدولة أو منظمات المجتمع المدني، لإجراء دراسات لغوية ودراسة اللغات المحلية وكتابتها، وتوثيقها، وتطويرها، وتعليمها للأجيال؛ خاصة وأن كثيراً من اللغات المحلية ليست مكتوبة مما يهدد باندثارها، وتوعية المجتمع بأهمية اللغات المحلية والتنوع اللغوي، من خلال دور التعليم ووسائل الإعلام المختلفة، من أجل سودان معافى، ومتسامح، ومتطور. والسلام.
شارك المقال