ما تقوله الجينات عنّا: الهوية السودانية بين التنوع الوراثي وسرديات الإقصاء

25
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أستاذ الوراثة الجزيئية الطبية والمعلوماتية الحيوية وعلوم البيانات

(استنادًا إلى دراسة أ. د. أحمد الياس حسين: «سكان السودان القدماء ولغاتهم 2)

• لطالما شغلت مسألة الهوية السودانية حيزًا واسعًا من النقاشات الفكرية والتاريخية، في ظل تنوع إثني ولغوي وثقافي يمتد عبر قرون. فالبلد الذي يتوسط القارة الأفريقية ويتاخم المشرق العربي، ظل يمثل نقطة التقاء كبرى بين شعوب، وقبائل، وثقافات، وهجرات، امتزجت فيه الجينات كما امتزجت فيه اللغات والتقاليد والعقائد. إلا أن كثيرًا من هذه المناقشات اعتمدت في تفسيرها للتاريخ السكاني على الوثائق، والنقوش، والروايات الشفهية، مع إغفال أحد أهم المفاتيح المعاصرة لفهم أصول الشعوب وهجراتهم، وهو علم الأنساب الجيني.

في هذا السياق، تقدم ورقة د. أحمد إلياس حسين «سكان السودان القدماء ولغاتهم 2» مساهمة علمية متميزة، إذ تستند إلى تحليلات دقيقة للحمض النووي البشري، لفهم السلالات الجينية التي أسهمت في تشكيل التركيب الوراثي لسكان السودان، وتربطه بما يجري في القارة الإفريقية والعالم من أنماط هجَرية وتاريخ بيولوجي مشترك. 

وتأتي أهمية هذا التحليل من كونه يفتح نافذة علمية صارمة على تساؤلات كانت تحكمها الأيديولوجيا أكثر من الأدلة. فما الذي تخبرنا به الجينات عن أصول السودانيين؟ 

وهل يحمل الوعي السائد عن العرق والانتماء أساسًا علميًا؟ وهل السودان، كما تقول الجغرافيا، ملتقى فقط، أم مصدر إشعاع جيني أيضًا؟ هذه المقالة محاولة للإجابة عن تلك الأسئلة عبر تلخيص وتحليل الورقة الأصلية.

منهجية الدراسة

اعتمدت الورقة على علم الأنساب الجيني (Genetic Genealogy) الذي يوظف تقنيات تحليل الحمض النووي (DNA) لا سيما الكروموسوم الذكري (Y-DNA) والحمض الميتوكوندري الأنثوي (mtDNA) لتحديد الطفرات الجينية المتراكمة منذ آلاف السنين، وتوزيعها الجغرافي، ومقارنتها بين المجموعات البشرية. وقد استُخدم هذا المنهج لتحديد ما يعرف بـ «السلالات الجينية الكبرى» (Haplogroups) التي يمكن من خلالها تتبع الهجرات الكبرى، والقرابة البيولوجية بين الشعوب.

أبرز السلالات الجينية في السودان

1.  السلالتان A وB  (الأصل الجيني الأقدم):

السلالة A تُعد أقدم السلالات البشرية، وتظهر بنسبة مرتفعة في قبائل مثل الشلك، نوبة كردفان، والفور، ما يدل على الوجود الأفريقي العميق لهذه الشعوب. أما السلالة B، ورغم انتشارها المحدود، فهي مرتبطة بمجموعات الصيد والالتقاط القديمة، وتدل على بقايا سكانية سبقت الطفرات الحضارية اللاحقة.

2.  السلالة E (السلالة الإفريقية الكبرى):

تُعتبر السلالة E أهم السلالات التي شكلت سكان السودان الحديث، وتشمل فرعي E3a وE3b، وهما الأكثر انتشارًا في أفريقيا جنوب الصحراء وشمالها. وتدل على مساهمة كبيرة لشعوب السودان في تشكيل مجتمعات شرق أفريقيا، وشمالها، وحتى بعض مناطق أوروبا والشرق الأوسط عبر الهجرات القديمة.

3.  السلالة  R (عابرة القارات):

رغم أنها سلالة آسيوية الأصل، فإنها تنتشر في السودان، وخصوصًا فرعها R1b-V88 المرتبط بشعوب حوض تشاد، مما يشير إلى وجود موجات هجرة متبادلة بين أفريقيا وآسيا، وربما أيضًا إلى انتشار ثقافات أفريقية باتجاه أوراسيا في عصور ما قبل التاريخ.

4.  السلالة J (السلالة السامية):

ترتبط بالعرب واليهود، وتنتشر في شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. ظهورها في السودان يدل على الهجرات التاريخية من المشرق، لكنها لا تشكل الأغلبية حتى في المجتمعات ذات الهوية العربية، ما ينفي فكرة «العروبة الجينية الخالصة».

5.  سلالات أخرى (F، I، K، T):

وهي سلالات أقل انتشارًا في السودان، ولكن وجودها يؤكد التمازج الجيني الواسع مع أوروبا وآسيا، ويعكس التفاعل التاريخي عبر الطرق التجارية والمصاهرات والفتوحات.

تحليل منطقي للنتائج

النتائج التي قدّمتها الورقة، والمراجع التي استندت إليها، تقوّض بوضوح فكرة «النقاء العرقي»، وتُثبت أن سكان السودان الحاليين يحملون تركيبة جينية متعددة الجذور، تنتمي إلى إفريقيا وآسيا وأوروبا. 

فحتى من يعرّفون أنفسهم بأنهم «عرب» سودانيون لا ينحدرون من سلالة واحدة، بل يشتركون في سلالات متنوعة مثل A وB وE وR وJ وغيرها. وتدلّ هذه النتائج على أن الانتماء اللغوي والثقافي لا يطابق دائمًا الانتماء الجيني.

كذلك، فإن توزيع السلالات يتقاطع بوضوح مع التوزيع اللغوي، حيث ترتبط بعض السلالات (A وB) باللغات النيلية الصحراوية، بينما ترتبط سلالة E ببعض المتحدثين بالأفروآسيوية، مما يعزز فرضية أن اللغات التاريخية في السودان كانت تنعكس، جزئيًا على الأقل، في أنماط الانتقال الوراثي.

يُستنتج من ذلك أن السودان لم يكن معبرًا للهجرات فقط، بل كان أيضًا مصدرًا لبعضها، وأن سكانه يمثلون صورة مصغرة للقاء العوالم الكبرى: أفريقيا، الشرق الأوسط، والبحر المتوسط.

أبعاد ثقافية وهوياتية

الورقة لا تقدم فقط مادة علمية حول الجينات، بل تقدم أساسًا جديدًا للتفكير في الهوية. فهي تدعو بوضوح إلى تجاوز الخطابات الضيقة حول «العرق» أو «القبيلة»، لصالح فهم علمي وإنساني قائم على الاعتراف بالتنوع الجيني المشترك بين البشر. وفي السياق السوداني، تمثل هذه النتيجة دعوة جذرية لإعادة بناء الوعي الوطني، بعيدًا عن التصنيفات الإثنية الصلبة، نحو وطن قائم على المعرفة والعدالة والاحترام المتبادل.

الاعتراف بأننا نحمل في جيناتنا أثر الشلك والنوبة والفور والبجا والعرب والأحباش والكنعانيين، ليس ضعفًا، بل قوة ثقافية وإنسانية تستحق أن تكون محورًا لرؤية السودان الجديد. إن هذا التعدد الجيني ليس مجرد حقيقة بيولوجية صامتة، بل هو سجل حيّ لحضارات وممالك وتقاطعات بشرية عبر آلاف السنين، تركت بصمتها في تقاليدنا، ولهجاتنا، وملامح وجوهنا، وحتى في وجداننا الجمعي. فالسوداني الذي يعيش اليوم ليس ابن قبيلة واحدة أو لغة واحدة أو سلالة واحدة، بل هو خلاصة مدهشة لتاريخ مشترك عابر للقبائل والحدود، ومفتوح على أفريقيا والعالم العربي والبحر المتوسط والهند والبحر الأحمر.

إن حمل جينات الفور أو البجا أو النوبة لا يعني فقط الانتماء إلى تاريخ تلك الجماعات، بل يعني الانتماء إلى معارفهم، موسيقاهم، أرواح أسلافهم، وصراعاتهم مع الطبيعة والبشر. وكذلك الحال مع العرب والأحباش، فإن وجود أثرهم في الجينوم السوداني يحمّلنا مسؤولية الاعتراف بهذا الامتزاج الحضاري من دون إنكار أو تقليل. بل الأجدر بنا أن نبني على هذا التنوع الجيني سردية وطنية جديدة، لا تقوم على النقاء أو الإقصاء، بل على الاعتزاز بتعدد المكونات، وقبول الآخر بوصفه جزءًا من الذات.

إن مثل هذا الفهم يعزز إمكانية العبور من دولة تُدار وفق منطق الانتماءات الضيقة، إلى وطن يحتفي باختلافاته كجزء أصيل من كيانه. فالدم السوداني، بما فيه من بصمات منحدرة من نهر السند إلى ضفاف النيل، ومن جبال الحبشة إلى صحارى الكنعانيين، يشكل مادة خام لبناء عقد اجتماعي جديد، يقوم على التعدد لا على التنافر، وعلى التلاقي لا على الاصطفاف.

وبدل أن يكون سؤال «من أين أتيت؟» بوابةً للتمييز أو الإقصاء، يمكن للجينات أن تجيبنا جميعًا: لقد أتيتم من كل هذه الجهات، فابنوا وطنكم ليكون شاملاً كما أنتم متعددو الجذور، ومتسامحًا كما أنتم ممتزجون.

تمثل دراسة د. أحمد إلياس حسين إضافة نوعية إلى أدبيات التاريخ الوراثي في السودان. فهي تتجاوز السرديات الأيديولوجية لتقدم فهمًا قائمًا على الدليل الجيني، يعكس غنى التركيب السكاني السوداني، ويدعو إلى مصالحة مع الذات الجمعية، التي ظُلمت كثيرًا في سرديات الإقصاء والاختزال.

إن السودان، كما توضحه الجينات، ليس وطنًا لعرق واحد، بل فضاء تخلّق من تفاعل عشرات السلالات، وكل سوداني يحمل في جسده تاريخًا بيولوجيًا يروي قصة تواصل حضاري طويل. ومن هنا، فإن وراثة السودان ليست فقط في الأرض أو اللغة، بل في الجين، الذي لا يكذب.

من المهم اليوم أن تُستثمر مثل هذه الدراسات في بناء وعي وطني جديد، يستند إلى العلم، ويرفض العنصرية، ويحتفي بتعدد الأصول كتعدد الأغصان في شجرة واحدة. فالتاريخ الذي تخبرنا به جيناتنا قد يكون هو المفتاح الحقيقي لمستقبل أكثر وحدة وعدالة.

المراجع (مختارة من الدراسة الأصلية)

Cruciani, F. et al. (2004). Phylogeographic Analysis of Haplogroup E3b. AJHG

Winters, C. (2010, 2011, 2018). Kushite Haplogroups and African Genetic Legacy

Gebremeskel & Ibrahim (2014). Y-chromosome E haplogroups and Afro-Asiatic languages

Hisham Y. Hassan et al. (2008). Y-Chromosome Variation Among Sudanese

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *