

الناجي حسن صالح
رئيس التحرير
• الأسواق تختنق… الطرق تُخنَق… وتَخنِق… الأرصفة تختفي تحت جثث البضائع الميتة… ولا مشتري لها.. الباعة الجائلون يزحفون كالجرذان الجائعة، يلتهمون كل شبر. والسلطات تقف ولعابها يسيل، تفرض الجبايات على كل نَفَسٍ أخير يطلقه الشارع.
عند السوق العمومي، هذا الوهم الذي يسمونه سوقاً كبيراً تجد شارع الجمهورية جثة ممددة بين أكواخ العفن. و(اتجاه واحد)؟ نكتة سوداء.. لا اتجاه هنا إلا اتجاه الاختلال والهرج. وجوه منهوكة، بضائع مكدَّسة بلا راغبين، في مدينة تلفظ أنفاسها.
حتى حي بانت العتيق لم يعد حياً. أصبح مقبرة للأرصفة. ورش تزأر، مقاهٍ تخنق الناس بدخان اليأس، ومطاعم تقدِّم وجبات من الغضب… المنطقة الصناعية تمتد كالسرطان، بينما المحلية تشرب شايها وتعد النقود.
والنهب في مدني لم يعد جريمة. أصبح حقاً مكتسباً. البيوت تنتهك في وضح النهار، الطرقات تسلب بلا حياء. المدينة تُغتصب كل يوم، والجلادون يبتسمون. أين المحلية؟ تسرق جيوب الناس. أين الدولة؟ تنام ملء جفونها.
هذه ليست ودمدني التي عرفناها. هذه جثة تتعفن في الشمس. الفوضى تقتل المدينة، لكن الأكثر قسوة أن القتلة هم من كانوا يحملون رايات الحماية. الناس سيرحلون، ولن يعودوا. لم يعد هناك ما يعودون إليه. والحالمون بالعودة سيمتد حلمهم إلى ما لا مدى.
المحليات هنا، وفي كل بقاع السودان لا تحكم يا سادة بل تَتاجر. تصدِّق الأكشاك العشوائية، تُرخِّص للفارشين الخانقين أنفاس المدن، تفتح الطرقات للفوضى مقابل بضعة أوراق نقدية تختفي في جيوب لا ترتوي. لا رؤية، لا تخطيط، فقط جبايات تُسحق تحتها كرامة المدينة.
هي جريمة مرتكبة باسم القانون. كلّ مخالفة تدفع رسومها تصبح فجأة (مشروعة) دونها السجن. الشوارع تُباع قطعة قطعة، والأرصفة تُؤجَّر يومياً لأصحاب الطبالي الذين يدفعون ثمن خرابهم – ليس للدولة، بل لوسطاء بطونهم بلا قاع. الدولة هنا غائبة، أو هي – بالأحرى – مطعون ظهرها.
أين الخدمات؟ أين الرقابة؟ لا شيء.. فقط موظفون بوجوه عابسة يأتون كل ليلة ليجمعوا ما استطاعوا جمعه من نقود، ثم يختفون كالجرذان في الظلام. المال يذهب إليهم، والفوضى تبقى لنا. والمدينة تتحول إلى سوق كبير للمخالفات والمخلَّفات، والمواطن يدفع الثمن مرتين.. مرة ليمر من الشارع المسدود، ومرة ليخسر ما تبقى من أمل بعودة النظام.
هذه ليست إدارة فاشلة، بل نظام فاسد. نظام يبيع تراخيص الموت البطيء للشارع، ويشرعن للانهيار.
ودمدني تسقط، وكذا كل المدن بلا اسثناء، ليس بفعل الحرب هذه المرة، بل بفعل جشع من يفترض أنهم يحمونها.
نظام المحليات هذا ليس فشلاً إدارياً.. إنه جريمة منظمة. تاريخ من السلب والنهب يُختصر في سطور التراخيص العشوائية والتصاريح المسمومة. كلّ ورقة رسمية هنا شهادة وفاة للجمال، وولادة لأبشع أنواع الفوضى والاستغلال.
هذا النظام لا يبني – يهدم. لا ينظم – يفسد. لا يخدم – يسرق. وجوههم البائسة عندما يأتون لجمع الجبايات، كوجوه الجلادين.. والمدن تحت أيديهم تتحول إلى غابة من الصفيح والمصالح المتشابكة. كلّ رخصة هنا طلقة في قلب النظام. كلّ تصديق وصمة عارٍ على جبين الحياة. وكأنما نعيد نفس ظواهر شهور ما قبل الحرب.
أي نظام هذا الذي يحول الموظف العام إلى لصٍّ متسول بعباءة الدولة؟ أي حكم هذا الذي يجعل من الفساد سياسة معلنة؟ إنه ليس أسوأ نظام في التاريخ فحسب.. إنه العار الذي يلطخ جبين الزمن نفسه.
والحرب لا تقع اعتباطاً..
إنها تتربص في زوايا الإهمال، تتغذى على مرارة المظالم، تنمو في ظل الفساد كالورم الخبيث. ليست صاعقة تنزل من السماء، بل شرارة تشتعل من أوجاع متراكمة، من بطون خاوية، من حقوق مهضومة، من كراسي تهتز تحت وطأة الجشع.
كلّ طلقة لها سببها، كلّ دمعة لها حسابها. الحرب ابنة شرعية للظلم والفساد، نتاج طبيعي للقهر، بل حصاد لما زرعته أيادٍ أثيمة من بذور الكراهية.
عندما يتحول القانون إلى أداة للفساد، فاعلم أنك تبني الحرب حجراً حجراً. وتفتح لها ألف باب.
والخراب الذي نراه الآن، هو الثمرة المرة لشجرة زرعها الفاسدون بكل عناية.
شارك المقال