
فريعابي محمد أحمد
كاتب صحفي
• الذي ينظر ويتفاعل ويعايش هذا المجتمع السوداني فهو مهرجان من الصور والمشاعر والعادات، يتحركون به في وجه الحياة لتحقيق مدلولاته في تصورهم. ولكن تندهش حين يأتي أحدهم بما لا يأتي به الأوائل، فالمشهد من المشاهد غير المألوفة
إيقاعها على أوتار القلب البشري المشدودة. إنها صورة تهجم على القلب البشري، وننتقل جغرافياً إلى بيئة المشهد. نحن الآن في ولاية نهر النيل، وبالتحديد غرب النيل في منطقة المحمية، حيث يقطن عبدالكريم صاحب المشهد الفريد.
هذه المنطقة يزلزلها النيل كلما عتى وتجبر منذ فيضان 1946 من القرن الماضي.
بدأ النزوح إلى أعلى طواعية وأخيراً كان إلزامياً من السلطه. وعبدالكريم كان من المتأخرين، وحين جهز أبناؤه المنزل الجديد، وأحسنوا اختيار الخرطة والبناء بصورة مبهرة، واختاروا له باباً يليق به فخامة واتساعاً وفناء واسعاً، وأتوا بوالدهم ليرى ويبدي رأيه وتوجيهاته، وما أن وصل وشاهد البوابة إلا أن أقسم ألا يدخل حتى يزيلوا هذه البوابة، فهو لا يسكن في منزل يضطر فيه الضيف أن يقرع الباب، ونزل الأبناء على طلب والدهم، وأصبح البيت بلا بوابة، ورحل عبدالكريم واستقر في المنزل الجديد الفخم ذي الصالون الواسع والفناء الكبير، ولكنه بلا بوابة، إلى أن دخل يوماً حمار فنادى عبدالكريم أحد أبنائه بأن يطعم الحمار من الذرة، واندهش الابن كيف نطعم الحمار، فجاء رد الأب إن لم يكن جائعاً لما أتانا، واستجابة الابن.
هذا المشهد الموحي بالإيقاعات والإشراقات؛ والتي ترتاد بالقلب آفاقاً وأكواناً. ومثال آخر حكاه أحدهم، أنهم نزولوا ضيوفاً
على أسرة من نهر النيل فأكرموهم غاية الكرم، لكن ما لفت نظره أن بالصالون كل أنواع شواحن الهاتف السيار، حتى لا يشق على الضيف كيف يشحن هاتفه. إنهم يقدمون صوراً رائعة، الكرم والاحتفاء بالضيف أيّاً كان بشراً أو حيواناً.
عبدالكريم مثال
هو الشفيف كجملة بيضاء… ارتطمت بنجوم منسجمة مع ذوقها…
هو (بلاغة) اليد… حين تخرج (المسغبة)، وتمدح مفردات المروءة…
هو مذكر لل(فعل الحميد) الذى يملي على الأنثى (مشاعرها)… وهو النظيف كملمح خاطرة تطل على مؤلمات (الحوجة)…
هو روضة شعر لا تدوَّن بالحروف..
فلوصف زهرة الكرم… تلزمنا زيارة إلى (اللاوعي)..
إلى مناطق العطف والنخوة… إلى محراب (النبوة)…
هو البصيرة حين تكتب الدمعة أولى أغنياتها فرحاً… فلا أحد يهين مزاجه الصافي… إلا حين يعطي اللسان مدحاً… لغربة (حالها المايل)..
لا امرأ يحملق في اصابعه حضوراً أو غياباً……. لا فرد ينشد المعونة… وماعون العطاء موفور بين يدي مولاه،
فهو حرٌّ في إدارة وزارته.. حرٌّ في تدشين وعي معقم للمروءة… حين لا أحد يراقب ضبابك….
لا شخص يدقق في ذكرياتك
… صورته تمتحن الحقيقة في أنصع ظلالها……
هو يحاصر واقع الشظف بين تخوم (بيت عز…ذل)…
حين لا يجد الآخرون حوله… لغة (مد يد العون)… إلا ولو ساجد آناء الثلث الأخير يدعو
…فلم ينتصر… ليموت…
ولم ينكسر ليعيش…
فنور الشمس يملأ قلبه بالصحو…
لم يشعر بحاجته إلى أمل ليؤنسه…
ولا ينتظر غداً يتلكأ… أو مساءً يسأل عن خياله…
فالمقعد الخشبي…(قهوته)… وباب (الحوش)…. سجنه المبغوض…
لم يشعر يوماً بنقص في الوجود… ولم يطفُ على حوجة أحد إلا (إغاثة لملهوف)..
فلم ينتظر شيئاً حتى المفاجأة…
كان يعرف آخر المشوار من أوله
… فلم يشعر بنقص في مشاعره
… ودوماً ينجو من السؤال الفادح: من أنت أيها الرجل؟؟
من أيّ فئات الضوء أنت؟
ومن أين ائتزرت مهجة النهار؟؟؟
كيف تعلمت زراعة التفاؤل في الصحراء…؟؟
كيف طوّعت الذئب لعزف الجيتار؟؟
.. إن عطاء الله معك… لا حدود له
(عبدالكريم)
… يسمعنا وهو يضحك عندما تسكب الشمس سائلها في فم (السحر)…
فهو ثرثار… كعطر…
مبحوح كطعم البرتقال…
يجيئك والليل (لباس الفقراء)، حين تحظى (الدمعة) بتمجيد ذارفها
هو ظل ملون…
(لونه) صفة القمر حين يتثاءب نوراً حالة نومه
…نوم غنى بفيتامين العافية
(عبدالكريم)
…ويحمل إبريق المودة بين ابتسامتيه… وينتبه إلى خلل رائع في الشبه.
… فإن ذبلت وردة في بيت فقير منهم.
..كان أول من يشد شراع الأمل في (صينيته).
.. نعم.. هو معك
حين يحس الربيع بواجبه في البكاء
…وإن وقعت نجمة أسف… فلا تصاب سماء السخاء بسوء، أو تخترق المجرة جاذبية (المعروف)
.. فلا جرح في الماء…حين يطفو الفراغ خفيف الوزن
… إنه بين أهله رائحة ضوء.
إنه ماء القلب بين المساكين.
.. حين ينظر إلى كل محتويات الصبر… كصوت تدحرج على بلاط الإخاء
…ويحتضن الضحى حين تنزف الآهة على هاجرة الألم..
شاكراً لأنعم الله. حين يدربه وقت (السحر) على أسراره … فلا وطن ولا منفى مع الدعاء…
فقط هي المسرة والسرور والعطف
مع ركعتي فجر…
وهي كل مفردات الشموخ والسجايا
… حين يصير التوكل عندك… عنده.. خشوع وعبادة.
شارك المقال