يوسف عبدالرضي
شاعر وكاتب صحفي
• سألني أحدهم ذات مرة، بنبرةٍ فيها شيء من الاستغراب وربما السخرية:
لماذا تقدّسونها أكثر مما ينبغي؟
وكان يقصد المرأة السودانية.
ابتسمت، ولم أجد في السؤال ما يستحق الغضب، لأن الإجابة ليست دفاعًا بقدر ما هي اعتراف بالجميل، اعترافٌ بفضلٍ لا يُنكر ولا يُختصر في كلمات.
نحن لا نقدّسها، بل نحبها كما لم نحب أحدًا. لأنها ببساطة، كانت ولا تزال المدرسة الأولى التي علّمتنا الحياة.
هي التي أرضعتنا الحب ممزوجًا بالأدب، وغرست فينا النخوة والكرامة، وسقَتنا قيم الحياء والاحترام من كفّها المملوء بالعطاء.
هي الأم التي لا تشبه غيرها، والأرض التي تنبت الرجولة، والمحبة الكبرى التي تسكن في وجدان كل سوداني أينما حلّ وارتحل.
حين أقول إنني أعشق السودانية، فأنا لا أتكلم عن ملامحها فحسب، بل عن تفاصيلها الدقيقة التي لا تُرى إلا بعين من نشأ في دفء حنانها.
هي أنوثة في أبهى تجلياتها، أنوثة ممزوجة بوقارٍ وإيمانٍ وحياءٍ نبيل.
تصون العشرة خوفًا من الله، لا من الناس.
تحترم الأب، وتهاب الأخ الأكبر، وتجلّ الخال والعم كأنهم أركان البيت الراسخة.
وهي، حين تكون زوجة، تجعل من بيتها جنة صغيرة، ومن زوجها رجلاً يشرق صباحه كل يوم بثقةٍ في نفسه، لأن وراءه امرأة تعرف معنى المشاركة والستر والودّ.
السودانية حُسن التبعّل، وجدول الحنان الممتد بلا انقطاع.
تعرف متى تصمت ومتى تتكلم، ومتى تواسي بالكلمة قبل الفعل.
ومن عرف امرأة سودانية، عرف كيف تبثّ الشجاعة في أطفالها بالأحاجي والحكايات التي تحمل القيم والمعاني العظيمة، وكيف تغرس فيهم احترام الكبير، وإكرام الضيف، وحفظ السر، وصون العرض، حتى قبل أن يتعلموا القراءة والكتابة.
تستحسن الحُسن، وتكره القبح، وتتحرّج من كلمة «عيب» حتى لا تكررها على مسامع الصغار أكثر من مرة.
هي الأخت الكبيرة التي تحمل عبءَ الأسرة، تجمع الحطب، وتحلب اللبن، وتُسهم في كل تفاصيل الحياة اليومية دون تذمر، بابتسامةٍ تقول إن المسؤولية عندها ليست عبئًا بل فخرًا وواجبًا.
ومن يعرفها عن قرب، يدرك أن السودانية لا ترفع صوتها على من تحب، بل ترفع مكانته في قلبها.
هي الزوجة التي تجعل من الحنّة طقس حب، ومن الدخان علامة دفء، ومن التحَنان لحن حياة.
تحب بصمت، وتغضب بحياء، وتسامح بقلبٍ واسع.
مستورة بطبعها، لا تكشف ضعفها ولا تُظهر جرحها، لكنها حين تتمنّع تزداد حلاوة، لأن في تمنّعها أنوثة من نوعٍ خاص لا تُصطنع ولا تُقلَّد.
في تاريخنا الاجتماعي، ظلّت المرأة السودانية حجر الزاوية في تكوين الشخصية الوطنية.
هي التي حافظت على القيم حين ضاعت البوصلة، وصانت اللغة والعادات والتقاليد في وجه التغيرات العاصفة.
في الريف، تراها أول من يستيقظ وآخر من ينام، تعمل بصمت، تزرع وتطحن وتخبز وتربي وتحنو.
وفي المدينة، توازن بين العمل والبيت، بين الطموح والالتزام، دون أن تفقد سحرها أو طيبتها أو حسها المرهف.
حين نقول إننا نعشق السودانية، فإننا نعشق ذاكرة الوطن مجسّدة في إنسانة.
هي التي حملت في ضفيرتها رائحة الأرض، وفي صوتها نغمة الطمأنينة، وفي حركتها دلال الجنوب، وثقة الشمال، وكرم الشرق، وصلابة الغرب.
هي التي ما زالت حتى اليوم، رغم تبدّل الأحوال، تحفظ كلمة «عيب» في قلبها كوصية للأجيال.
لقد علّمتنا السودانية أن القيمة لا تُقاس بالزينة ولا بالمظاهر، بل بالخلق والسلوك.
علمتنا أن الحياء ليس ضعفًا، بل جمالًا خفيًا يضيء من الداخل.
وأن العطاء ليس منّة، بل فطرة.
وأنها حين تقول «حاضر» فهي لا تعني الطاعة العمياء، بل الوفاء لعشرةٍ مقدّسة تربطها بالأسرة وبالله قبل كل شيء.
لذلك، حين يسألني أحدهم من جديد:
لماذا تقدّرونها إلى هذا الحد؟
سأقول ببساطة:
لأنها المرأة التي اختزلت في شخصها معنى السودان كلّه: الطيبة، الكرامة، الحياء، والعطاء.
هي التي إن أحبّت، منحت بلا حدود، وإن صبرت، صبرت بجميل، وإن رحلت، تركت فينا بصمتها للأبد.
فلا تسألني بعد اليوم «لماذا هي؟»
لأن السودانية – ببساطة – عشقي الأبدي.
شارك المقال

تحدثت فاوفيت بارك الله فيك