
يوسف عبدالرضي
شاعر وكاتب صحفي
• من عادات الزواج الراسخة عندنا في السودان: الحنّة للعريس والعروس، ودق الريحة في بيت العروس، الزريعة، والقعدة، وغيرها من الطقوس ذات الدلالات الثقافية العميقة. بعض هذه العادات ما زال حيًّا يُمارس حتى اليوم، وبعضها اندثر أو تغيّرت ملامحه مع مرور الزمن.
من بين هذه الطقوس القديمة والحميمة، يبرز «قطع الرحط» كأحد الرموز ذات الدلالة القوية في الثقافة السودانية، لا سيما في الريف والمجتمعات التقليدية.
وقد رأيت أن أسلّط الضوء عليه، لأنه ليس مجرد مظهر من مظاهر الزفاف، بل يحمل في طيّاته إشارات اجتماعية ونفسية ترتبط بتحوّلات المرأة داخل مجتمعها.
الرحط: أكثر من قطعة قماش
عندما يُذكر الرحط في الذاكرة الشعبية، غالبًا ما يُربط بمراسم الزواج، وتحديدًا بلحظة «قطعه».
ولكن الرحط كرمز وكزيٍّ، أقدم من لحظة القطع ذاتها.فهو لباس تقليدي للبنت البكر، أي التي لم يسبق لها الزواج. وقد كان لباسًا مألوفًا في معظم أقاليم السودان، خاصة في الأرياف، حيث كانت الفتاة ترتدي الرحط من سن البلوغ وحتى لحظة دخولها الحياة الزوجية.
الرحط يُصنع غالبًا من خيوط جلدية تلتف حول الخصر وتتدلّى في شكل حزام مزخرف. وقد تختلف صناعته بين منطقة وأخرى، لكنها تتفق في رمزيته: أنه علامة على البكارة والفتوّة، وعلى بقاء الفتاة في كنف الطفولة أو ما قبل الأنوثة الناضجة اجتماعيًا.
لحظة القطع: الطقوس والتحوّل
«قطع الرحط» يتم عادة في سياق مراسم الزواج، حيث يُنزع هذا الحزام من خصر الفتاة العروس، إيذانًا بانتقالها إلى مرحلة جديدة من حياتها: من الطفولة والعذرية إلى الأنوثة المكتملة والزواج.
وتُرافق هذه اللحظة طقوس احتفالية وتعبيرات شعبية، تعكس ما لهذا الفعل من قيمة رمزية.
في تلك اللحظة، تتحوّل البنت إلى امرأة، وتبدأ بارتداء التوب لأول مرة، وتُدرَج ضمن دائرة النساء «المقنّعات»، أي المتزوجات.
الخرافة والواقع
في بث مباشر سمعته مؤخرًا، تناولت إحدى الفتيات موضوع الرحط، وقالت إنه تقليد زفافي سوداني، لكنها أنكرت المعتقد الشعبي القائل:
«البِت الما بنقطع رحطها، ما بتحمل»،
واعتبرته مجرد خرافة قديمة.
لكنني أقول ليك يا شاطرة، مع كامل احترامي لرأيك:
الما انقطع رحطها، ما بتحمل!
مش لأن القطع له تأثير بيولوجي، بل لأن هذه المقولة تستند إلى واقع بسيط: أن البنت البكر لم تُمارَس معها العلاقة الزوجية، وبالتالي، فهي لم تدخل بعد في مرحلة الخصوبة الفعلية.
في تراثنا، يُقال إن البنت بعد الزواج تمر بما يُعرف بـ»ذلّة البكر»- وهو تعبير شعبي عن أول علاقة حميمة، وما يترتب عليها من تحوّلات نفسية واجتماعية.
من هنا، يصبح قطع الرحط بمثابة فاصل ثقافي واجتماعي ونفسي، يعلن عن دخول الفتاة عالم النساء، وقدرتها على الحمل والإنجاب.
ليس خرافة… بل مفتاح لفهم المجتمع
قطع الرحط إذن، ليس خرافة، ولا مجرد طقس جمالي أو فولكلوري، بل هو مفتاح مهم لفهم منظومة القيم والمراحل العمرية في المجتمع السوداني التقليدي.
إنه يعبّر عن لحظة عبور- من عالم الطفولة إلى عالم الأنوثة، من حالة البراءة إلى النضج الاجتماعي، من كونها «بنت ناس فلانة» إلى كونها «مرَة فلان».
وهذا الانتقال لا يتكرر. لذلك، عندنا في الونسة العامة، إذا تزوّجت المرأة للمرة الثانية، يُقال:
«أصلاً فلانة قطع رحطها فلان»،
أي أن أول من تزوّجها هو من «قطع الرحط»، فالقطع يتم مرة واحدة فقط في العمر، مثل ختم الهوية الاجتماعية.
الختام
الرحط ليس مجرد «لبسة قديمة» أو موضة زالت، بل هو مرآة ثقافية تعكس تصوّرات المجتمع السوداني عن الجسد، والأنوثة، والبلوغ، والزواج.
وحين نفهم هذه الرموز، فإننا نقترب من جوهر ثقافتنا، ونعرف كيف كنّا نُفكّر، ومتى كنّا نُفرّق بين «البنت» و»المرأة»، ليس فقط بالجسد، بل أيضًا باللباس، والمراسم، والموقع الاجتماعي.
شارك المقال