
جمال الدين علي - السعودية
• تعلق قلب نورا برائحة بيتها الصغير . بغرفه القديمة و أثاثها البسيط، بمطبخها العتيق، و أشجارها المعمرة.. ترقرقت عيناها و أحست بالوحدة, مما جعلها تشعر بالحزن. و كأن يدا قوية تدفع بها الى ذلك الفراغ الأسود الموحش، الذي رأته وهي تقف عند عتبة باب غرفتها وتتطلع إلى ذلك التل المرتفع الممدد عند النخلة بجوار الحائط يمين الباب الخارجي.
و تطلعت عيناها الغائرتان المذعورتان في خوف إلى السكون الموحش بالشارع, و خيل إليها أنها رأت شبح النخلة تتحرك و ما لبث أن عبر شبح شجرة المانجو و شبح شجرة الليمون و أشباح البيوت المهدمة و المحترقة من أمامها, شعرت برجفة، تراجعت للوراء. بيد مرتعشة أغلقت باب غرفتها وقلبها ينتفض من الخوف. وعلى ضوء القمر الواهن المرتمي على زجاج النافذة و من خلال و مضات القذائف المتطايرة في السماء كان يمكنها تمييز سلسلة طويلة لا نهاية لها من الحرائق و الخراب والدمار الذي لحق بالحي و الخرطوم بأكملها. الخرطوم التي شعرت عندما قرصتها صديقتها في القرية على فخذها وقالت. بختك بكرا تسكني بيت مبني بالطوب الأحمر به ماء وكهرباء و مروحة و ثلاجة وتلفزيون… شعرت نورا أنها دعوة إلى الفردوس. حينها أشعلت خيالها البكر جمرات متوهجة وبدأت تدب في جسدها الأسمر حياة غير الحياة التي الفتها.. جاء الرجل الذي أوقد نيرانها الداخلية بنيران تختلف عن نيران شمس مايو في حقول الذرة الشامي.. لقد أحبته إذن. نعم أحبته لقوته ونظراته الطيبة وذكائه، ولأنه قدم لها ما تريد. الحب وبجانب الحب العيش في العاصمة الخرطوم. جلست على طرف السرير في غرفتها وهي تفكر ربما للمرة الألف في إجابة السؤال الذي ظل يزلزل كيانها. هل تترك بيتها مثل بقية سكان الحي الذين فروا و تنجو بنفسها من الموت.. والى أين؟
في آخر مكالمة قبل أن تنقطع شبكة الاتصالات بسبب اشتداد المعارك بين الجنود ترجتها بنتها الوحيدة التي تعيش مع زوجها بالخارج وسط دموعها أن تترك البيت. لم تكن نورا ولا زوجها يظنان أن الأمور قد تسوء الى هذا الحد. الحد الذي يتسولان فيه بصلة أو حفنة ذرة أو قطعة خبز جافة.. ولأول مرة تشعر نورا بجوع حقيقي جوع يأكل لحمها و يمص سوائل عظامها. لقد ظنا أنها مثل لعبة عسكر وحرامية التي أدمنتها مدينة الخرطوم. ربما قالا في نفسيهما حالما تشرق الشمس تنتهي اللعبة بمارشات عسكرية وبيان أول صار محفوظا بالنسبة لهما.. لم ينتبها أن هذه المرة اللعبة بدأت وضح النهار في شهر رمضان . لم يحتمل زوجها الذي كان يعاني من مرض نقص السكر عضات الجوع.
المسكينة لم تتخيل في أحلك كوابيسها أن تدفن نصف عمرها بتلك الطريقة المهينة. استعانت بثلاثة من أبناء الجيران الذين فضلوا البقاء لحراسة منازلهم من السرقة بعد خروج أسرهم ولأن الطرق الى المقبرة تفضي الى الموت أيضا اقترح أحدهم أن يدفن المرحوم في الشارع أمام البيت. رفضت نورا المقترح بحزم وأشارت الى جذع النخلة.. أدفنوه هناك…. كانوا شبابا في مقتبل العمر من عمر أحفادها لا خبرة لديهم بأمور تجهيز الميت. غسلوا الجثمان بما توفر من ماء و كفنوه بثوبها الأبيض. النخلة ابنة النخلة التي شهدت لقاءهما الأول حملتها نورا فسيلة صغيرة من مزرعة أبيها في القرية قبل أكثر من أربعين سنة..
ربما أرادت أن تمنحها شرف احتضان جسده وكأنها ترد المعروف إلى النخلة الأم. كان الشباب خائفين من الرصاص الطائش المتطاير غسلوه وكفنوه وصلوا عليه و في أقل من ساعة كانوا قد وضعوا جثمانه في القبر و هالو عليه التراب. كانت نورا تقف هناك صامتة كأنها مستغرقة في صلاة أبدية.. رغم توسلاتهم رفضت الذهاب معهم. رفضت حتى أن يبقى أحدهم معها في البيت. لقد اختارت أن تبقى بجوار قبر زوجها. العيش معه حتى لو كان ميتا يمنحها حياة. روحها وقلبها معلقان في البيت الذي كبرت فيه وكبر معها.. لقد عاشت تفاصيل الحياة بحلوها ومرها في هذا البيت أكثر مما عاشت في بيت أبيها في القرية. تعرف كل طوبة فيه متى بنيت وكل صورة متى علقت وفي أي مناسبة. تعرف اي شق فيه وأي لفحة غبار أو دخان متى وكيف خرجت.. تعرف صوت الطيور في الصباح على هامة نخلتها و هديل القمرية على سقف الغرفة. عند العاشرة صباحا و عبر نافذة مطبخها التي تطل على الشارع يصل إلى مسامعها صوت بائع الاواني المنزلية والروبابيكا المتجول وعند الظهيرة تسمع صوت الأطفال وهم يلعبون مع عودتهم من المدرسة. و عند الرابعة عصرا تشتم رائحة عرق زوجها عندما يعبر عائدا من مقر عمله فيطير قلبها من الفرح. كل هذه الأصوات والروائح تعبر بذاكرتها الآن و تنعش روحها.
شعرت نورا بتلك النيران القديمة التي أوقدت دواخلها ومع الشعور بالنشوة تماوج أمام مخيلتها عبير أشجار الجوافة والمانجو وتغريد البلابل ورائحة صغار الماعز والعجول الممتلئة بالحيوية والنشاط، و سرى ايقاع الجداول المتدفقة وطزاجة الحقول التي يبللها الندى ورائحة الخبز الساخن في قريتها.. انغمست في ثنايا جنبات حياة القرية الصافية الباهرة. شعرت بصدرها ينمو وينفر ثدياها من حدود فستانها كأنهما رمحان من نار.. و أحست بتفاعل جسدها كله مثلما حدث مع أول لفحة الحب. الحب البسيط دون تعقيدات المدنية.. ولا تحليلات الفلاسفة والشعراء وعلماء النفس، و لمعت عيناها ببريق عجيب، بل شعرت بالعذوبة البدائية التي اتسمت بها لقاءاتهما القليلة المتباعدة وسط الحقول في القرية.
حينها فقط أدركت بفطنة تنزلت عليها أنها لن تموت في هذه الحرب بل قررت بينها وبين نفسها إلا تموت في هذه الحرب العبثية اللعينة. وهي في خضم كل ذلك عادت أصوات المدافع و الرصاص بقوة, تمددت نورا على جنبها الأيمن في السرير وراحت تستكمل حلمها..
شارك القصة