في زمن الرؤى الوطنية: أين رؤية السودان؟

19
محمد كمير جاهز

محمد كمير

خبير اقتصادي

• بينما تسير دول المنطقة بخطط واضحة ومحددة نحو المستقبل، ترتفع رايات الرؤى الوطنية الطموحة لتكون بوصلات استراتيجية طويلة الأجل، تُوجّه التنمية، وتُعيد تعريف دور الدولة والمجتمع في ظل عالم سريع التحوّل. في المملكة العربية السعودية، مثّلت رؤية ٢٠٣٠ نقطة تحول فاصلة، هدفت إلى فك الارتباط التاريخي بين الاقتصاد والنفط، وبناء اقتصاد متنوع وحديث يعتمد على الابتكار والاستثمار في الإنسان والبنية التحتية. جاءت هذه الرؤية بثلاثة محاور رئيسية: مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، ووطن طموح، مستندة إلى أهداف قابلة للقياس، ومشاريع ضخمة مثل نيوم، وبرامج نوعية لإصلاح التعليم، وتمكين المرأة، وتوسيع القطاع غير النفطي.

في مصر، حملت رؤية ٢٠٣٠ طابعاً تنموياً شاملاً، يركّز على بناء دولة عصرية قادرة على التنافس، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام، مع التركيز على تحسين جودة الحياة، والعدالة الاجتماعية، ودعم الاقتصاد الأخضر. تضمنت الرؤية محاور متعددة تشمل الابتكار، والتعليم، والصحة، والحوكمة، كما سعت إلى تعزيز مشاركة القطاع الخاص، وزيادة حجم الصادرات، وتوسيع قاعدة الإنتاج المحلي، من خلال مشاريع وطنية ضخمة تُعيد تشكيل المشهد العمراني والاقتصادي.

أما سلطنة عُمان، فقد صاغت رؤية ٢٠٤٠ كامتداد طبيعي لمسيرتها التنموية التي بدأت منذ السبعينات، لكنها جاءت هذه المرة أكثر عمقاً وتكاملاً مع المتغيرات العالمية. رؤية عُمان ٢٠٤٠ تركز على بناء اقتصاد متنوع ومستدام، يقل اعتماده على النفط، ويرتكز على المعرفة والابتكار وريادة الأعمال. كما تولي أهمية كبيرة لتأهيل الكوادر الوطنية، وتحسين بيئة الأعمال، وتوسيع مشاركة الشباب والمرأة في التنمية. ومن خلال مبادئ الحوكمة والشراكة بين القطاعين العام والخاص، تهدف السلطنة إلى إرساء نموذج تنموي متوازن ينسجم مع ثقافتها وهويتها، ويستجيب في الوقت نفسه لمتطلبات المستقبل.

في المقابل، يقف السودان على أرض هشة بلا رؤية، بلا خطة، بلا مشروع جامع، منذ أن أسقطت ثورة ديسمبر النظام السابق، وحتى انفجار الحرب في أبريل ٢٠٢٣. لم يُطرح خلال هذه السنوات أي تصور وطني واضح لمستقبل الدولة السودانية. كانت اللحظة مثالية لتأسيس رؤية تليق بثورة عظيمة، تُبنى على موارد هائلة، لكنّها ضاعت وسط التجاذبات السياسية والتكالب على السلطة، ثم اندلعت الحرب فوضعت البلاد في حالة تشظٍّ لا تسمح بأي تخطيط. ومع استمرار الحرب، أصبحت الدولة تُدار بمنطق الضرورة القصوى، لا بمنطق الاستراتيجية.

في ظل غياب الرؤية، أصبح الذهب – المورد الأكثر سيولة والأقل شفافية – الوسيلة الوحيدة لصون ما تبقى من الدولة المركزية. يُصدّر الذهب بشكل متسارع وغير منتظم، ليس ضمن خطة استثمارية لبناء احتياطات أو بنية تحتية أو لإصلاح الاقتصاد، بل بهدف تمويل البقاء، وسداد الالتزامات العاجلة، والمحافظة على الحد الأدنى من رمزية الدولة. ومع ذلك، لا توجد أي سياسة واضحة لإعادة هيكلة القطاع المعدني، أو تحويله إلى رافعة تنموية حقيقية. 

والنتيجة أن الدولة السودانية تحوّلت إلى كيان يتفاعل مع الأحداث دون أن يصنعها، ويتلقى الأزمات دون أن يتنبأ بها أو يستعد لها. بينما تعيد الدول من حولنا رسم خرائطها المستقبلية، وتحجز مقاعدها في سباق الاقتصاد الجديد والتحول الرقمي والطاقة النظيفة، يغيب السودان عن المشهد، كأنما قُطعت صلته بالعصر.

ما يجري في المنطقة والعالم من تغيرات جيوسياسية واقتصادية وعسكرية، لا يرحم من لا يملك رؤية. والأمم التي لم تضع لنفسها أهدافاً واضحة، ستكون مجرد بيئة للفوضى أو محطة لأطماع الآخرين. السودان بحاجة إلى رؤية وطنية عميقة، لا تكتفي بإدارة الأزمات، بل ترسم طريقاً للخروج منها. رؤية تستوعب المتغيرات، وتعيد ترتيب الأولويات على أسس من العلم والمصلحة الوطنية، لا الولاءات الضيقة. 

إن لحظة الرؤية لا تنتظر، وإن لم نلتحق بركب من يضعون أهدافهم ويرسمون طرقهم، فسيتجاوزنا الزمن والتاريخ، ونصبح مجرد هامش في تقارير الأزمات الإنسانية. رؤية السودان يجب أن تكون أولوية وطنية، إذا أردنا استعادة مكانتنا وشكلنا ودورنا. فما بين من يحلمون بسياحة فضائية ومدن ذكية ومفاعلات طاقة نظيفة، نحن ما زلنا نصدِّر الذهب بلا خريطة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *