البراء بشير

البراء بشير

كاتب صحفي

• تنزوي التربية وتقويم الناشئة تحت سقف الأمور المهمة، التي بها يحسب صلاح المجتمع وفاعليته في إعمار الأرض وإقامة دين الله على النهج الصحيح، ولا يتشكك ذو لب أن الأدب مقدمٌ على العلم، وهو أساس ثابتٌ تُبنى عليه المعارف، وبدونه لا ينفع ذا علم علمُه؛ ومن باب أولى لا ينفع ذا مالٍ مالُه.

ولتقام التربية على النهج الصحيح، لا بدَّ أن يكون المُرِبي ذا خلق قويم، ونفسٍ سوية لا تتملكها الأنانية والانتصار للذات، بشكل يجعل عقابها للمُربَى انتقاماً لا تقويماً. وذلك لتنشئ نفساً سويةً على شاكلتها أو خيراً منها؛ وهذا الأمر لازمٌ اضطراراً سواء أكان المربي أباً أو معلماً أو ذا قُربى.

كان في السلف غلامٌ اسمه هشام بن عمار، باع والده داراً له بعشرين ديناراً، ليرسله لطلب العلم في المدينة المنورة عند الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وكان للإمام نهج معين في تعليم الأحاديث؛ إذ يجعل الطالب يقرأ الحديث ثم يبين له هو ما قرأ، ويشرح له بتفصيل. ولكن لأن هشام بن عمار- رحمه الله- كان نَهِماً في طلب العلم، إلى جانب أنه حديث عهد بمجالس الإمام، لم يلتزم هذا النهج، وأتى مالكاً فقال: حدثني فقال مالك: اقرأ قال: لا بل حدثني. 

فلما أكثر عليه ضربه مالكٌ تأديباً له، فبكى هشام بن عمار. وهنا أراد مالكٌ أن يواسيه بإعلاء همته، فسأله مستنكراً: طالب حديثٍ يبكي؟! 

قال هشام لا أبكي من الألم ولكن باع أبي داره وأرسلني إليك فضربتني بغير جرم، ولا أجعلك في حلٍّ. فقال: يا غلام ما كفارته؟ قال هشام: حدثني بكل سوطٍ حديثاً، ففعل مالك، وغيّر منهجه مع هذا الطالب وحده حتى ينال عفوه، فقال هشام: زد في الضرب وزد في الحديث فضحك مالك.

إن في هذه القصة حكماً ومواعظ؛ فانظر كيف ضحى الأب بدنياه لأجل دينه، فقد باع عرض دنيا زائلاً ليرسل ابنه لطلب العلم، وانظر إلى الغلام السوي وحرصه واجتهاده في طلب العلم، وانظر إلى قوة شخصيته في مقارعة الخطوب وارتياد الأسفار، ثم انظر كيف أقنع الإمام برأيه بكل تأدبٍ وانضباط، ومن غير تكبر وتعالٍ، وانظر إلى طيب خاطر المعلم السوي، الذي لم يكن عقابه لطالبه انتقاماً بل هو تأديب، وحين بكى لم ينتقص من رجولته أو يُضِحك عليه زملاءه كما يفعل البعض اليوم، بل رفع همته وذلك بلفظ (طالب الحديث) فكأنَّه يقول له أنت لست مثل عوام الناس، بل أنت الآن في مقام أعلى، فلا تبكِ كما يفعل العامة. ولم يتردد في مراجعة نفسه حين علم بحال الغلام، وطلب منه العفو بلا خجل ولا كِبر، بل غيَّر منهجه لأجله. 

وهذا الغلام الذي تربى على هذا النهج، صار فيما بعد علماً من أعلام الحديث، فهو الإمام المحدث هشام بن عمار، ويكفي أنه صار فيما بعد شيخاً لصاحب الصحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *