في ذكراها.. حاجة (سهية) ودلالات صفية

9
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• هي مثل طائر البقويقة السلطانية، عزمت أن تجوب الدنيا، فحزمت متاعها على خوائه، وخمض دواخلها.

ترفع أكفها للواحد الأحد، أن ييسر مسيرها ويحقق أمنيتها بزيارة البيت الحرام.

ودعت أهلها وأودعت وصاياها، إلى حين إئتياب.

طاوعت عزمها فارتكبت مع صُحبتها، طريقاً شاقاً ووعراً من بلدتها الصغيرة في نيجيريا مروراً بدولتي النيجر وتشاد حتى وصولها إلى مدينة وادمدني، التي احتجزتها للأبد بدفئها، فطاب لها المقام عندنا، لكنها لم تنس أمانيها.

فإلتقتني هناك، حيث كان مركز بيعها بجوار منزلنا في حي ١١٤ لتختار جوار إحدى دكاكين الحي ساحة لتجارتها. لعلها كانت ملمة ببعض أصول فن التسويق وشيء من علم المبيعات، ولم لا وهم أهل تجارة وعمل دؤوب منذ نعومة أظافرهم؟.

تدعي أن اسمها سهية إنحيازاً للغتها العربية الركيكة والمكسرة بلا هوادة، إلا أن الشواهد تشير إلى أن اسمها «صفية» بلا لحن، وهكذا كنا ندعوها.. أما أنا فأخاطبها بـ «أمي صفية» لدواعٍ حسية وعاطفية.

كيف لا وهي في مناسباتنا المختلفة تقطر أعداداً مهولة من صويحباتها وجاراتها، في إجازة مفتوحة لحين القيام بكل أعباء المناسبة من أولها لآخرها خدمة للضيوف وتوفير سبل راحتهم.

تنجلي جسارتها وضوحة، عندما يأخذ أحدهم حفنة من المعروض بلا دفع أو استئذان، فتستشيط غضباً وتزبد بقية يومها، أما معي فستبين لدانتها بلا خفية، ولا مقابل. فكان فعلها يجتلب لها الانتقاد العرم من رفاقي، إلا أنها لا تعيرهم بالاً ولا تسمع ما يقولون، ولا يهمها غلظة خطابهم.. فهي تسترسل في كرمها المنحاز تجاهي، وليس لها حاجة في حجة أو مسوغ لتبرير رفدها وعطائها. ولا يعنيها أنها تشتهر بصرامة مؤكدة، إلا في حضرتي.. وصاحبة طرفة شائعة عند حضوري. فيكفيها الفعل وعلى الآخرين عنت المواءمة.

فهي لا تقول غير كلمة واحدة هي: (اتركهم)، برطانتها النيجيرية التي علمتني منها الكثير من الجمل والمفردات.

تترك كل شيء حين يؤذن للصلاة، حتى أنا.. فتدخل في خشوعها غير آبهة بالدنيا وما فيها.

جادلتها كثيراً في صلاة الجمعة من مكانها، متتبعة إمام المسجد في ركوعها وسجودها، من على بعد.. إذ كان المسجد على مسافة نصف كيلو تقريباً. فأقول لها بلين لا يفتر، إن صلاة الجمعة هي عبادة أساسية يلزم أداؤها جماعة في المسجد أو في الأماكن والساحات المفتوحة. ولا يجوز أداؤها هكذا بعيداً عن المسجد. لأنها بذلك لا تكتسب صفة صلاة الجمعة. ذلك لأن وجود الإمام ومن يقتدي به من المصلين في ذات المكان حقيقةً أو حكماً شرط في الصلوات التي تُؤدى جماعة، والتي تدخل في ضمنها صلاة الجمعة. ولهذا السبب فإن اقتداء مصلٍ بإمام يؤدي الصلاة في مكانٍ مغاير للمكان الذي فيه المقتدي لا يجوز ولا تكون الصلاة فيه نافذة. إلا أنها دائماً لا تعبأ بما أقوله، إيماناً منها بصحة صلاتها بلا سند تسوقه، غير العادة ، مع تنطع لازمني في غير محله ولا زمانه خفف من وطأته الثقة المتبادلة.

حاولت مراراً أن تطعمني ما تُحب، فضلاً عما توفر لديها أصلاً، جراء تجارتها التي تعرفها من بيع التسالي والفول المدمس، فجربتني بعطاياها من “القورو”، فكنت أمضغه بفرحتها، رغم عدم قراحته، على مضض، مكافأة لها على إعطائها الموفور بالصبوة.

في أول رحلاتي الرياضية الخارجية مع النادي الأهلي، والتي كانت لمدينة هراري الجميلة عاصمة زيمبابوي، في مطلع الثمانينيات، وكانت المرة الأولى التي سأفارقها فيها لأيام معدودة، وقد أنبأها صديقي معتصم سليمان بذلك، فوجدتها مهمومة ومتكدرة على غير عادتها، وطلبت مني الاعتذار عن السفر بأي حجة، لكني هدأت من خاطرها وطلبت منها الدعاء بالتوفيق.

في صباح اليوم المضروب للسفر، جاءتني في منزلنا باكرة، تحمل على رأسها، علبة صفراء ضخمة لنوع من الخميرة المشهورة آنذاك، وقدمتها لي مع ابتسامة حانية، ودعوات صادقات بسفر ميمون وعود حميد. وذهبت هي لحال تجارتها المعهودة بجوار المنزل عند دكان (عثمان).

غلبتني حاسة الدراية، بفحوى عطيتها، فبادرت بمحاولة فتح ما جاءت به قبل أن تشرع في خطوها، فكان رملها أعجل من محاولاتي الخائبة، فاستعنت بآلة حادة لتدخلني لحيرة ما بداخل العلبة.

أول ما تبادر لذهني ذلك الـ (القورو) المفتونة به، ذي الطعم الغريب على لساني، والذي لم يتعوده رغم الإلحاحات الدائبة. إلا أنني فوجئت بكمية مهولة من النقود في لفافات موضوعة بعناية وترتيب فائقي الدقة. ولعلها وضعتها بهذا الشكل الفريد لتستوعب أكبر قدر من النقود، كأنما استعارت من الخميرة مفعولها.

بقيت متجمد الفكر والأطراف لبرهة، لا يتحرك فيّ شيء سوى دمعات متضرمة أعادتني إلى الحياة.

ما هذا العطاء؟

ما هذا السخاء والإنعام؟

هي امرأة أحوج ما تكون لمالها الذي سعت وكدت لأجله طوال عمرها حتى قاربت التسعون.

رددت لها ما لها، بعد مكابدة عسيرة مني، وممانعة مستعصية من جانبها، واكتفيت بكيسين من الفول والتسالي علهما يؤنساني في رحلتي، أو كما قالت.

إلا أنها، أودعتني سراً:

إن الرفد بحب لا يهتضم المال ولا يمحقه، ولا تثريب إن ذهبت الثروة، إنما الخوف من ضؤل القلوب.

لله درك أمي (صفية).

فما زالت في القلب حسرة..

وأنت تشدين رحالك في مسيرة العودة لأرض أجدادك، رغم ممانعتي، إلا أن أسبابك كانت أقوى من توسلاتي..

فالروض أصبح مقفراً.. وجفت سيول المجرى.

فاستوت الأمكنة ولم يعد لها نفس البريق.

ولم يعد الطير يأتينا بجوعه، ولا أطراف جروفنا تشبعه.

إلا أنني كنت أغالب يقيني بلا سند، أنه وداعنا الأخير.

ولم تخذليني كعادتك.

ودانت ساعة اليقين، ولم يتهاون ابنك أبوبكر..

فأتأني متسارعاً…

الآن.. صدقت رؤياي..

قالها متغافلاً وذهب.. لم ينتظر عبارات العزاء حتى..

لعله يعلم يقيناً أني أزاحمه أمه بالانتساب.. ولي حق السلوان.

وهو ما زال يزورنا راتباً.، فنشتم ريحك.

أعرف أنك لم تكملي مسيرتك، ولحقك الأجل في الفيافي وانت راجلة غبراء تكدحين في سبيل وصول.

لا مناص أن ترقدي هنيئة في أرض أحببتيها بصدق واستقامت لك يوماً ما.. إلا أنها لم تعد كما كانت…

إلا قلوبنا، فهي كما تركتيها..

تهواك بلا حدود.

نسال الله أن ينزل عليك السكينة، وأن يسكنك الجنة وأن يرحمك ويغفر لك.

كوني بخير

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *