فى الذكرى الرابعة للرحيل: ورود حمراء من أجل عيسى الحلو ١٩٣٧ – ٢٠٢١ – (٣) 

829
عيسى 16

سردية عيسى الحلو: ديالكتيك الأنا والآخر

لمياء شمت – الإمارات

• تلتمس هذه القراءة التذكارية تأمل بعض ملامح الطقس الجمالي الخاص لعيسى الحلو، ومحاولة التجول عبر حدائق حكائيته بوسعها الدلالي وريها الجمالي والفلسفي، وخصوصيتها التي تفلح في كسر رتابة النمط وسدود المشابهة، وهي تنشد إدهاش فوضى الحكي المرتب، المعادل الموضوعي لفوضى العالم ودهاليز الذات. منطلقة في اشتغالاتها الدؤوبة من وعي لا يعبأ بالبداهات والمسلمات الكسولة، وما تراكمه من غفلة وطمأنينة زائفة وهشة. بل تجهد في المقابل للتماس مع العالم من مكمن ذاكرة متشظية، عبر قص استرجاعي غالباً وجواني وذاتي، ينهمك في زحزحة الوقائع والتلاعب بإحداثيات الزمن، متخففاً من حيادية المشاهد والمشاعر، ومتوحلاً بعناد في حُجب الحاضر، ومستديراً في ذات الوقت لاستدعاء ماض جفال ومراوغ ينهض فيه السرد على هيكل الذاكرة، وهو يستقصي حيوات باطنة تمتاح من الداخل، وتتوسد جوانية الذات. كما هو الحال في (صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل) و(العجوز فوق الأرجوحة)، (ونسيان مالم يحدث) وغيرها من الحقول الحكائية المديدة، ببطانتها الفلسفية وقلقها الوجودي المنتج.

هكذا تدعونا تلك المتون الحكائية الملونة للتجول في أنحاءها، وتأمل معمارها المحكم، وإعمارها الدلالي والجمالي الحفي الذي يغذي كل مفردة وإشارة، بحيث لا شيء زائد هناك أو فائض على النص، إنما كل ملتئم، ونسج متمهر لا يكاد ينبو فيه جزء ليبدو مكبراً بافتعال أو مختزلاً بإجحاف، عبر خامة سردية متضامة يعرف صاحبها كيف ينحت دروبها ويهندس تفاصيلها وشبكات علائقها، رامياً بإصرار لإغواء القارئ وتوريطه في نصوص لم تمنعها عذوبتها من أن تظل ملغومة بالأسئلة الكبرى، والتململ والارتياب الكثيف. 

ويحيلنا ذلك بالضرورة إلى لغة الحلو كمغامرة أخرى، تقتضي الإمساك بتلابيب كائن حبري ماكر ومراوغ. فاللغة إن شاء لها الحلو تأتي حسناء عزلاء مغوية، شفيفة باهرة لا يشوبها عكر. وإن شاء فهي متفاصحة كثيفة الرمز، وماضة بالإلماح ومتوهجة بالانفعال. أو متخفية طاعنة في الإضمار، بدرجة قد تتحول بها الكتابة أحياناً الى فعل تستر يجاري مقولة أوسكار وايلد حول أن الإنسان ابتدع اللغة في الأساس أداة يموه بها أفكاره ومشاعره، ويخفي عبرها أكثر مما يعلن. وبذات القدر يبدو الحلو لفرط إمعانه في معابثة اللغة، وكـأنه يستطيع أحياناً أن يتدبر لنفسه لغة أخرى وبالأبجدية نفسها. وهو يركض عبرها في أزقة الوجود الداخلية، ويطارد الظلال، ويقبض على نُسالة الأحلام، يحرضه صوت بورخيس: «أن تعبر الفردوس في الأحلام وتجني وردة من بستانه فهذا لا شك جميل، لكن يظل الأجمل أن تصحو والوردة بين يديك»

ولا نغادر حديقة اللغة دون الوقوف على أمر عنونة النصوص، التي لا تنحصر أهميتها في كونها إضاءة استهلالية، ولكنها بالأحرى مفتاح دلالي واشي يؤسس لواقع النص ولمنطقه الداخلي الخاص المأهول بالسحر والحلم والفنتازيا، والمشغول بارتحال منهوم الى تخوم اللاشعور وغيهب اللاوعي، ومكنونات الذات. والعنونة وفق ملاحظة د. عبد الماجد عبدالرحمن هي «أحدى أهم أدوات التماسك النصي بشقيه الدلالي والتركيبي». وهي، كما كل شيء آخر في نصوص الحلو، تأتي منفلتة من أسوار العادي، ومتجاوزة للمألوف، وجانحة للإدهاش، وعامرة بالإحالات، ومبذولة للتأويل المضاعف، حتى لتبدو أشبه ما تكون بقطعة فسيفساء يكفي أن تتأمل قطعة من منمنماتها، وزاوية من نقشها لتدرك حرفية وبهاء الزخرف كاملاُ.

وكما أسلفنا فإن عوالم الحلو السردية لا تقتصر انشغالاتها على التسواح عبر الذات، وسبر علاقاتها المركبة مع العالم، ولكنها تستعين كذلك بأسلوبية تعتمد التداعي الحر، والتشاعب المطواع، واللغة المبطنة بالإلماح، وكسر خطية الزمن، وتعديل مسارات الأحداث بقص استعادي يشابه أحياناً طابع السيرة الذاتية، والشذرات البيوغرافية، حين يتجول على متن ذاكرة تبحر صوب جذورها، مدفوعة برياح التفلسف الرصين والتأمل الشاهق. وتنبؤي أحياناً أخرى، يستزرع الإشارات ويلوح بالرمز. وجواني غالباً، يكدح في شعيرة الحج إلى الدواخل، متزوداً بفيوضها واستمداداتها.

كذلك يكشف الحكي عن رسوخ سؤال الهوية في طبقاته ووعيه، وتحريه الحثيث للكشف عن الدخيلة الإنسانية، عبر متون سردية تكافح فيها الروح لتصل الى وعي بذاتها. وكأنها تحاور درويش في مكابدات لملمة الهوية: «أنا هناك.. أنا هنا / لي اسمان يلتقيان ويفترقان». وهو بعض حال عصفوري شجرة التين في نص (عجوزان فوق الشجرة) المحتشد بترجيعات وانتباهات تعيد اكتشاف الذات من زوايا شتى، وعبر فصول متتالية.

 ولعل سؤال الهوية المنغرس في لحم الحكي الحي هو ما حدا بالحلو تسخير فكرة التوأم كترميز فائق لإشكالية الهوية، والتباس الأنا المتعدد في داخل خارجي، وخارج داخلي يتلاصق بأكثر من مجرد جسد. ويذكرنا ذلك بالحيلة الفنية التي لجأ لها شكسبير في مسرحية (حسبما تريد)، متحاوراً مع ملهاة الأخطاء لبلاوتس، وهو يوثق تشاكسات توأمه هامنث وجوديث. ومستكشفاً في ذات الوقت حساسية اللحظة التي تقابل فيها الذات نسختها التي تماثل شكلها، وربما طباعها وسجاياها، بحكم شفرة وراثية لا ينقصها المكر. وهو ما يحاول العلماء دراسته علمياً بمراقبة النشاط البيوكهربائي لأدمغة التوأم، حيث يشير ارتفاع مؤشرات ذلك النشاط إلى زيادة قدراتهم الروحية وطاقاتهم التخاطرية. وهو ما يعبر عنه الحلو بقوله «بمثلما تتطابق صفاتنا الداخلية، تتوحد فينا الإرادة والرغبة.. تتشابه أصواتنا وأفعالنا وأحلامنا»، لحد أن «تمتلئ الذات بذاتها الأخرى الرديفة والموازية والمفارقة».

 وهو أيضاً بعض ما يحدثنا عنه الحلو بتأمله لصدع الهوية حين يعرفها باعتبارها: «مجموع المعاني المتفقة أحياناً والمتناقضة أحياناً.. حينما تتشكل في ديالكتيكها الخاص الذي يثبت المعنى، وينفي ذات المعنى فيما لا نهاية». في إحالة إلى جدلية الأنا والآخر وتقليبها على كافة وجوهها وحدوسها. كما هو الارتطام السارتري المدوي بجحيم الآخر، أو الوعي الديكارتي المستريب، حيث الذات وعي منعزل ومكتف بذاته.    أو عبر فضاءات الفينومينولوجيا وفرضية التنافذ المتبادل بين الذوات. مرواً بالموقف الهيجلي حيث الأنا معرفة تتحقق عبر الآخر. ووصولاً عند الحلو وموقفه الوجودي الخاص: «بدون الآخر لا تكون الأنا أنا، وبإلغاء الآخر تمحو الأنا حضورها في العالم». 

قبل أن يعرج بنا الى لعبة المرايا البورخيسية، وامتداد الذات خارج حدودها، كناظر ومنظور اليه، منقسماً وملتئماً، حيث تعانق الذات سرها في العلن، في تجربة يتساءل فيها أدونيس «ما المرآة؟ .. وجه ثان وعين ثالثة». والحلو في خضم كل هذا التطام واقفاً على ربوته، كما رفيقه كونديرا مستشرفاً عالماً هو محض وجود معضل، ومعترك منتج للألم كما يراه الفلاسفة. يداوره الحلو بروح إبداعية لا تتهيب مشقة الترحال، مستحضرة وصية سركون «سافر.. سافر حتى يتصاعد الدخان من البوصلة». ويسافر الحلو في مغامرات وعي لا يكاد يكف فيها عن طرح الأسئلة، وأصابعه تتلوى على القلم فتنهض للوجود عوالم، وتنبعث أرواح وأطياف، وتصحو أزمنة وتنفلق أمكنة، لا تكف عن الوميض من وراء غلالات سديمها الأسطوري ورهجها الفنتازي.


   في شارع ( الرأي العام ). ..ذات صباح كنا هناك …  إلى عيسى الحلو ..ووردة 

محمد نجيب محمد علي 

***

عيسي صديقي

 أخي وأبي 

سيد الكلمات أمير المجالس

 من يشعل الوجد بين الشيوخ 

وبين الشباب الصبي 

هو من يشتهي نجمة في المطر

 وخريفا يغني علي جدول في الشجر

 وبنات من القمح يلبسن إسورة من جريد النخيل

 ويفعلن ما يسحر القلب حين يميل

 ويصعدن في قمة الروح

 يرقصن فوق خيوط الندي

 ويعبرن ضوء المدي 

حيث المراجيح

 والشمس ترمي بأنفاسها للصباح

 وهمس العصافير يجري بأجنحة الشوق عبر الرياح

 كنت أنا

 وهو الناس

 حين التقينا 

كنا نثرثر في محنة الوقت

 كانت أصابعنا تزدهي وهي تحملنا في يدينا 

و(وردة) كانت تغازل في عرسها خلف ناقذة للكوابيس

 كانت تجالس أيامها في القواميس

 كانت تمشطها في الذهاب المجيء

 وفي وشوشات النعاس 

كلمتني وقالت :

 صديقك هذا يذكرني بالعواصف وهي تبعثر أوراقها في اليباس

 كان عيسي يدثرني ببريق الهيام

 ويسامرني بالزمان الذي قد مضي, 

 والزمان الذي لا يزال يصارع أنفاسه في الزحام 

كان يحكي (لوردة) عن عرس أحلامها 

وهي تدفعني عن يدي

 وتغازلني والشوارع تنبض من عشقها.

. والكلام.

 أتذكر ،

 والفجر يرمي بأوراقه في النهار.

 ونحن نجالس في ( زينب ) الشاي

 في قهوة البوح .. وهو مليء بخطواته 

كان يمشي علينا بكل وقار 

ويفتح أحضانه مثلما وطن من أحاجي

 ومن أغنيات البحار .

لاشيء يسلو به القلب عنك أيها الحلو

د. عمر فضل الله – أمريكا

•  صباح الخلد البهي يا أبا النون والنور وأخواتهن.. «صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل» الذي لم يعد بيننا رأي العين لكنه بقي فينا رأي القلب والبصيرة والعقل والحقيقة المتسامية فوق غيابات «الوهم» والخيال.  

يارفيقي. أيها الحلو. لقد مضيت إلى عالمك الجديد وتركتني خلفك «أختبيء لأبحث عنك» أمني النفس بلقائك هنا في عالمي رغم أني أعلم أنني بذلك قد اخترت «الوهم» مثل «عجوز فوق الأرجوحة» يغفو فيحلم بـ»وردة حمراء من أجل مريم». وأنت اخترت الرحيل إلى هناك لتقيم في قصر المرايا في «الجنة بأعلى التل» حيث “مداخل العصافير إلى الحدائق” تحلق معها بأجنحة ملونة مثل «ريش الببغاء» وتصحبها في «رحلة الملاك اليومية» إلى قصرك العالي المتأرجح وسط السرايا.. جيئة وذهاباً مسافراً فوق غيمة كبيرة من البخار تتصاعد في علو السماوات الزرقاء لترسم ألوان الفجر والضحى والمساء. وحين يؤذن الأذان ينبثق القصر مثل زهرة ويكشف البهاء فتنجلي جدران الماء الشفيف الممطر لتشف عن قصرك اللؤلؤي البراق…»

ما زلت أجتر حواراتك الجميلة التي كنت فيها مربياً ومعلماً. كنت تسألني وكأنك ترغب في التعلم وزيادة المعرفة، وكنت أوقن أنك أنت من يهدي لي المعرفة عبر السؤالات. كنت تمازحني بالأسئلة الفضفاضة لكني كنت أتعلم منها الكثير. كان ذلك عقب فوزي بجائزة الطيب صالح عن رواية تشريقة المغربي. قلت لي يومها: لماذا اخترت الرواية كجنس تعبيري لمشروعك الأدبي والفني يا عمر؟ لكن دعني أقول لك شيئاً، إن روايتك هذه «تشريقة المغربي» ستحدث حراكاً أدبياً وثقافياً في العالم العربي بأكثر مما أحدثته رواية موسم الهجرة إلى الشمال» فأصبتني بالدهشة حتى إنني قلت لك إنك تمزح فأكدت لي أنك تعني ما تقول. ثم قلت لي أعلم أنك بدأت بالشعر فلماذا تركته؟ هل لأن هذا هو عصر الرواية؟ ولما سكت متحيراً فلم أجبك قلت لي مستطرداً: الكتاب الشباب اتجهوا لكتابة الرواية لأنهم يعبرون عن مأزقهم الموجود بإتقان كامل وهذا ما لا يسعف الكتابة الشعرية. هل أنا محق؟ دعني أجري معك حواراً ننشره في صحيفة الرأي العام.

ولم تنتظر موافقتي فغمرتني بالأسئلة: ماذا عن المشهد الروائي السوداني الآن؟ هل أنت مع المقولة التي تجعل من الطيب صالح سقفاً للرواية؟ لماذا اخترت التاريخ إطاراً روائياً لأعمالك؟ عالمك الروائي ينهض على أرض الفكر وليس التجربة الوجودية الحياتية المباشرة؟ لقد أسميت مشروعك (بالعرفانية) ماذا تعني؟

وعدت يومها من مكتبك ممتلئاً غروراً فقد حاورني عيسى الحلو وأثنى على أعمالي. ياله من يوم استثنائي مدهش. ثم اخترت العودة غرباً هناك عبر بحر الظلمات ولم أكن أعلم أنه كان آخر لقاء لي بك أيها الوجه الجميل.

لكنك يا صديقي وأنت في قصرك تركتني هنا أتأرجح في «حمى الفوضى والتماسك» بين «الورد وكوابيس الليل» بعد أن أيقظت فيَّ جنون المشهد السردي وفتحت في عالمي نافذة تطل على عالم «الثقافة والفنون» عشت فيها معك خمسين عاماً من الحكي والسرد البهي، سطرتها «الأيام» فشغلت «الرأي العام». 

أولئك الذين حملوا نعشك فأودعوه باطن الأرض نهار الاثنين الخامس من يوليو عام ٢٠٢١ وظنوا أنهم ودعوك إلى الأبد لا يعلمون أنك موعود بـ»قيامة الجسد» لتعيش حياً في قلوب محبيك وفي عقول تلاميذك وأجيال الغد الآتي أما قلبي فيحمل لك ما ينوء بحمله جسدي الواهن الضعيف.

أعدك أ أني سأعود إلى أعمالك فأعزي بها نفسي لأسلو، وإن كنت أعلم أنه لا شيء يسلو به القلب عنك أيها الحلو

عيسى الحلو ..اختبئ لأبحث عنك

بشرى الفاضل – كندا

•  نشرت هذه المقالة بالملحق الثقافي  بالرأي العام الذي كان يشرف عليه  عيسى الحلو في غيابه إبان وعكة صحية المت به قبل رحيله الفاجع يرحمه الله.

***

كنت أرجيء الكتابة عن عيسى الحلو لأنني أكتب في الصفحة التي يحررها 

وبما انه يغيب الآن عن مكتبه حالياً بسبب وعكة صحية طارئة ألمت به نتمنى 

له كما يتمنى أحبابه عدد النجوم في سماء الوطن الشفاء منها فإنني سأبحث عنه 

فيما كتب بينما لن تختبيء كتابتي عنه.

عيسى الحلو كائن ثقافي سوداني كبير وكثير. هو الرواية والقصة والنقد وهو 

الملاحق الثقافية العديدة التي أنشأها بحرفية مشهود له فيها وهو المعلم الأول. 

وفوق ذلك كله هو هذا القبول الذي يحظى به في الوسط الثقافي. عيسى كائن 

(مهضوم) مثل (الكسرة بي موية) لأمعاء من هردت معداتهم الصلصة والشطة 

الحارة. ومهضوم في حقوقه التي في عنق الوطن. هو إنسان مهموم بقضايا 

الوسط الثقافي يعالجها عبر المقال الصحفي والإبداع والحلقات المذاعة المرئية 

والجلسات مع الفاعلين في هذا الوسط في مختلف الأعمار.ومهما يختبئ فإننا 

سنبحث عنه.

الطبيعة بكائناتها طيورها وأشجارها وورودها وزهورها والأشياء من حول 

الشخصيات التي يكتب عنها عيسى هي المادة الخام التي ظل عيسى الحلو 

يطوعها لتخدم أعماله القصصية والروائية منذ مجموعة ريش الببغاء إلى آخر 

أعماله.انظر (وردة حمراء من أجل مريم) وتأمل في (مداخل العصافير إلى الحدائق) 

ومثل ذلك كثير.

في مجموعته القصصية (اختبئ لأبحث عنك) وهي أربع وعشرين قصة ضمها 

كتاب صدر عن دار عزة عام 2003م في 220 صفحة تنتظم هذه الخصائص 

مما ذكرنا سائر القصص. اطلق الكاتب على المجموعة عنوان إحدى القصص 

ففي صفحة 121 نطالع قصة بذات العنوان يحكي لنا الراوي عن كيف فقدت مايسة حبيبها وزوجها مامون الضو الذي اختفى من حياة زوجته وهما يعيشان 

في الشقة رقم 12 في بناية بوسط الخرطوم وباختفاء مامون بطوعه منذ الليلة 

الأولى انقلبت الحياة رأسا على عقب «اختلت نواميس الكون وتبدلت الورود 

في كل الأصص الفخارية إلى زنابق سوداء». لاتصدق مايسة أن مامون يمتلك كل تلك 

الصفات حين تزورها في شقتها في غيابه زوجته التي خبأها عنه وتلميذة مدارس 

أغواها  مامون فيما تقول البنت .مايسة تعتبر نفسها مسؤولة عن ضياع حبهما 

وزوجها مامون.

في غيابه ظلت تخاطب المقعد الخالي. وحين ظهرت سكين في 

القصة أيقن القارئ أن الراوي ما جاء بهذه السكين عبثاً هكذا ستصدق النبوءة 

التشيخوفية وتهجم مايسة في نهاية القصة على السكين وتدسها في صدرها. 

الأشياء التي تخدم قصة عيسى الحلو ليس يهم وجودها أو عدم وجودها في 

الأمكنة الفعلية ففي حالة قصتنا هذه (شقة وسط الخرطوم) «دقت الساعة الكبيرة 

وسط الميدان العام « .اما الببغاوات فقد استخدمهما الكاتب ببراعة لتعلن لنا ضربة 

البداية ونقطة النهاية :

– «اختبئ بعيداً  لأبحث عنك «

قال الببغاء:

– بعيداً إلى أي مدى؟

قالت رفيقته وهي تشقشق نافدة الصبر:

– ليس بعيداً أكثر مما ينبغي.

ثم اخذ الببغاوان يرددان اغنية :

-اختبيء لأبحث عنك بعيداً قريبا.ً

حين اقتربت الأقدام وصرخ مامون وقبض على يد مايسة بعد فوات الأوان 

وقد أغمدت الخنجر في صدرها أظلمت الشقة رقم 12. سكنت فيها الحركة طوال 

أيام الأسبوع التالي ولم يسمع إلا صوتين لاهيين:

يقول الصوت الأول

اختبئ بعيداً

يقول الصوت الثاني:

-إلي مدى؟

ويرد الصوت الأول:

– بعيداً ولكن ليس أكثر مما ينبغي.

هكذا نحس بصدى مايسة في الببغاء الأول وبمامون في الببغاء الثاني. في 

الحركة الأولى للقصة عند المفتتح وفي الحركة النهائية.الببغاوان لاهيان لكن 

من يمثلانهما في لعبة الإستغماية هذه لم تكن مسألتهما وقفاً على الكلمات 

اللاهية .كانت مصحوبة بالفعل الأليم وهذا هو الفرق بين شكلانية أداء الطائرين 

العابثين وجوهر عذابات مايسة وانطفاء تلك العذابات مرة واحدة باختيارها فيما 

تظن أنه انطفاء.

 عيسى الحلو كثير والكتابة عنه بهذا الشكل لا تجوز وهو الناقد والكاتب 

ومحرر الملاحق الثقافية لنصف قرن ويزيد و هو القاريء الحصيف. وندرك أن  عيسى وإبداعه 

قمينان بدارسين جادين ينكبون على إنتاجه الغزير فهو إنتاج ملخص لمسار 

الرواية والقصة القصيرة السودانية منذ بداياتها ومتماهي مع تطورها. 

 لكن حسبي هنا أن ما كتبته اليوم هو بمثابة تحية له مع الوعد بمحاولة 

البحث عن موجة عيسى الخصوصية في بحر عطائه الهادر. فالتحية له والأمنيات 

الطيبات وهو على سرير المرض وانهض يا عيسى من أجل ثوب الإبداع الزاهي 

الذي تحيكه كلماتك كلما خطها قلمك كل صباح. 

قصة قصيرة 

الصيف.. اضاع الحديقة

عيسى الحلو

• وضعت ناهد راسها بين يديها ساهمة، وارتفع صخب الأولاد حولها.. واندفعت ضحكات قصار وأخرى صاخبة.. ثم انخفضت الأصوات الى همس، ثم ساد صمت اخترقته أصوات دقات آلات الكتابة.. وهدأ الأولاد ودارت عجلات العمل داخل المكتب.

اما ناهد فهمي لا تزال تفكر في اللا شيء.. وكانت التفاصيل الصغيرة لأحداث السنوات الثلاث الأخيرة تظهر نفسها بشكل مثير للحزن، فحياة ناهد مع يوسف تظهر وتملا الذاكرة.. ولكن ما يحزن ناهد ان كل تلك الأيام ضاعت هدرا، لقد رحل يوسف وانتهى الامر، ولكنها الحياة لا تثبت على شيء كائنات تحيا.. وأخرى تموت ولكن الأشياء تجيء الان.. مثل تلك النجوم في السماء حين ترحل او تموت.. ولكن ضوءها لا يزال يبرق رغم الزمان والمسافات.. لقد ترك يوسف العمل هنا.. ولكن ذكراه تملأ الأفق كله.

لم يكن رحيل يوسف وتركه العمل هنا شيئا عاديا لقد ترك العمل عمدا وبلا سبب كالأسباب التي تجعل الناس يتركون وظائفهم المكتبية، مما أصاب ناهد بضربة شديدة افقدتها صوابها فأصبحت المؤسسة كلها خرابا. فكانت روح الفقد تشمل المكان.. الأبواب والنوافذ والزجاج والناس، لقد فقدت الأشياء صلات التجاور.. وتاه عقل ناهد

 في السهو.

شيء يملا صدر ناهد.. شيء حار كالغضب.. مرير كالحقد.. بارد جدا كالحزن. شيء له طعم الحب القاسي، وكانت البنات في المكتب يراقبنها.. ويتوقعن منذ الصباح ان يحدث لها شيء. كان تتوقف دقات القلب في صدرها. كانت نلهد تضم ذراعيها النحيلتين المرتجفتين حول صدرها، كما لو كانت تحمي نفسها من الخطر، اما كبرى البنات فقد كانت تخاف عليها من ان تفقد عقلها.

لم يكن ما بينها وبين يوسف حبا.. هذا ما همس به مأمون في اذن البنات.. وكانت البنات يشفقن عليها وهن يعرفن اندفاعها في علاقتها بيوسف.. وكن يتابعن احداث قصة الحب بينهما. فحين تنتصر ناهد على يوسف يشغرن بنصرهن الخاص.. ويحقدن على يوسف ان هو انتصر عليها

ولكن ناهد كانت تختلف عنهن. لقد كانت ناهد عاشقة، كانت امرأة تصطلي بنار حقيقية كان الحب بينهما شديدا. وكان الخصام اشد.. والقطيعة قوية لا رجاء فيها.

فقالت امنة: ربما تزوج يوسف الان بأخرى.

قالت زينب ربما هاجر

ومثل مركب في اللجة ضاعت ناهد.. وبين الحب والكراهية انقسمت على نفسها.. وضاعت قصة الحب بين هذا الكره.. وذاك الغرام.. وما كانت ناهد في مثل هذا الوضع لتدرك شيئا.

.. لا ليس هو الألم اذن.. وليس هو الفقد او الحزن.. انه العذاب في تحوله بين الشدة والوهن، لقد افسدت الخصومة كل التفاصيل الصغيرة لتلك الحياة المشتركة بينهما.. وكان وجه يوسف يظهر.. براق العينيين.. كثير الابتسام.. ومقطب الجبين قليلا.. يطيل النظر في عينيها ويفرح بالحركات الطفولية التي تأتي بها في الإشارة والكلام.

وطوال ثلاثة أيام كان الانفعال يهز جسد ناهد، لم يفدها العبوس او البكاء، ولم تجد القرارات الكبيرة.. ومن ثم كفت ناهد عن فعل أي شيء. وثم اخذت في التخبط والارتباك كانت ناهد قد تغيبت عن المجيء للمكتب طوال هذه الأيام. وكانت قد تظن انها بغيابها هذا تحل المعضلة كلها. انها تعدم العالم كله بما فيه مكان العمل. وبالتالي تبعد عنها هذا الخطر. ولكنها الان تواجه بغياب يوسف الذي يسد الأفق.. فتجاور الحضور والغياب معا.

وضعت ناهد وجهها بين راحتي يديها.

كان وجه ناهد منطبعا في عذاباته امام اعين البنات.. اما الأولاد فلم يعيروا الامر أهمية خاصة، لقد وجد الأولاد في المسالة أكثر من وجه، فهي بنت حلوة.. وتارة عابس شمطاء.. وقال احمد: انها تذهب مذهب الصغيرات حينما يندفعن مع افراح الحب.. قال حامد: كم أتمنى ان تكون لحبيبتي روح البسألة ذاتها.

اخذت ناهد تنشد السلوى.. فقرات خطابات يوسف اليها المرة بعد المرة.. فتارة تصدق انه يحبها.. وتارة تنكر الفكرة كل النكران، فالحب اصيل ولكن الكره اشد اصالة!! وسط هذا الوضع القائم على الشك واليقين.. بين الماضي والحاضر.

وقالت سامية: ان الذي بينهما معقد جدا.

.. قالت زينب: ليس هو لعبة.. قالت سامية: هذا عالم.. وذاك عالم!

.. قالت ناهد تحدث نفسها: هل الامر بيننا واضح منذ البدء.. الم تكن الفوضى قد وصلت درجاتها القصوى حينما اتفقنا على قواعد تلك اللعبة التي عصفت بكل شيء؟ قد يكون الحب كبيرا هنا، والخسارة فادحة هناك.. فالتوقع في اللعب، يجعل الامل يرتعش.. فتوهج المشاعر كلها.

.. قالت امنة: انها مشاعر غريبة!

.. قالت ناهد: لقد اطال النظر في وجهي وبجرأة لا مثيل لها.. وكان يقول في وثوق كامل: ((انني متعب جدا.. أتملكين قدرة تحملي)).. وكان في ذلك اليوم جفولا وجامحا!

لقد احسست ان قلبي طعن..

فقلت: انني بدوري متعبة، والله انني لك لهازمة! فقال أؤكد انني سأهزمك!

مضى يوسف وترك ناهد.

كانت الآلات الكاتبة.. تتكتك، والعيون تترقب. حينما وقف يوسف امام ناهد في نهار ذاك اليوم.. حمل يوسف ملف الشكاوى.. ووقف امام ناهد، نظر يوسف في عينيها، وقال: متى نبدأ؟ 

.. تلجلجت ناهد.. وقالت: نبدأ ماذا؟؟ 

قال يوسف: نبدأ بالتظاهر اننا نحيا قصة حب!

 نظرت اليه وراقتها اللعبة.

وقبل ان ينصرف يوسف.. كانا قد اتفقا على قواعد واصول اللعبة.. ان تندفع في التعلق به الأيام الثلاثة الأولى من الأسبوع، وان يلعب يوسف الدور نفسه الأيام الثلاثة الأخيرة.

في اول الأيام.. قامت ناهد بدورها في تردد، مما اشاع قليلا من الكذب والتصنع في حركاتها.. فجعلها تضحك.. ولكن لدهشتها كانت ان رأته حانقا وكاظما غضبه.. فاستمر الخصام بينهما حتى نهاية الأسبوع.. وفي الأسبوع الثاني حاولت ان تسترضيه.. فكتبت اليه خطابا رقيقا تعتذر فيه.. ولكنه مزقه في ازدراء مما اغضبها. فخاصته ما تبقى من أيام الشهر. فكان يوسف يحاول جادا استرضائها كانت لا تستجيب الا مع مطلع الأسبوع الثاني. وهكذا استمر حالهما.

لم يكن احد ليجزم بكذب حبهما. فكانت العيون ترى كل شيء.. وكانت البنات يعرفن ان يوسف يحب ناهد وأنها تبادله بالمثل.

فكانت ناهد تسال امنة.. انه يتجاهلني.. اهو الكره ام التصنع؟؟

فتقول امنة: ان هذه الأمور لا يعرفها الا أصحابها فان كان لي ان احكم بالواقع الظاهر.. فهو يحبك بلا شك.

وتقول ناهد كيف لي ان اعرف؟؟ انني لم احتمل اللعبة المهلكة.

وتصمت امنة.. فتضرب اصابعها بعنف على الالة الكاتبة وتقول: عليك ان تعلمي ان الأمور ذات مستويات فللجسد طريقة.. وللروح طريقة.

وتقول ناهد: أي الطرق اسلك إذا؟؟ ثم تضيف ان علاقتي به انتهت وقد ابلغته هذا القرار.

.. قالت امنة: وماذا قال؟

.. قالت ناهد: لقد عضب غضبا شديدا.. وتتصنع ناهد المرح وهي تقول: لقد كسبت الرهان.. فانا التي هزمته.

تكتكت الآلات الكاتبة وتوقفت.. وترفع امنة راسها وعلى عينيها اشفاق حان، وتقول: ربما كنت الخاسرة.. ربما!

كان يوسف قد قرر ترك المكان.. ومن ثم ترك عمله هنا وعندما علمت البنات بالخبر.. لم يكن ممكنا تصديق دوافعه، اذ ان المسالة كلها مشكوك فيها. فهل كان قراره سابقا لقرار ناهدا ام لاحقا له؟

.. قالت امنة: انهما الاثنان معا!

قالت سامية: انها ناهدّ

وقال حامد: انه يوسف.

حمي الجدل واشتد. وصمتت الآلات الكاتبة واخذت البنات والأولاد يسألون أنفسهم في صمت.. ما المعنى؟.. ما الحياة؟.. ما العفوية؟… والسؤال من هو الرابح؟ ومن هو الخسران؟

وعندما رفعت ناهد راسها.. سالت بدورها.. من الخاسر، ومن الرابح؟

(تمت)

 

شارك الذكرى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *