

بقلم: عامر محمد حسين
نص «تِلْك البِنْتْ».
القاعدة الاساسية في الكتابة القصصية ،تتمثل في القبض على الزمن، ودقة تصوير المكان، بحوافه كلها جغرافية ،وإنسان ولغة، ومشاعر..والقاص» محمد صديق محمد احمد» ، في نصوصة وعلى مساحات الزمن وتعرجاته وتلونه ،يرسم لنا بريشة الفنان صورة مزدوجة للحياة في واقعية حقيقية وخيال متزن بخبرة كتابة وللقاريء ان يستنشق مع نسيم المكان جزالة اللغة وبهجتها ، بهدوء تدخل إلى هذه اللحظة وتعيش مع من يتبادلون الحديث ويمشون في الشارع وتستعيد مع اللغة والحكاية هذه القدرة الهائلة للقاص في رحلته داخل النفس البشرية.. نص « تلك البنت « كان عنواناً لمجموعة قصصية تحتوي نصوصاً اخرى .وفي مساحة حركة النص وحراك الشخوص تستطيع ان تتلمس كيف ان هذا النص ، بلغته الشاعرية وشعرية المكان لايكتمل ابداً ولاتريد ان تغلق الصفحة…يبدا النص بابيات شعر تمثل المدخل ، وهو مدخل لاعلاقة له بما تعارف عليه البعض عند مبتدا الكتابة وخبر الفكرة وتشكلها..المدخل في هذا النص تنبيه للكاتب نفسه قبل رسم اللوحة..هنا يختار اللون المناسب، والعطر المناسب والزهور التي تسبق الموسيقا السردية
«مَدْخَلْ :
( وَلِمثل ليلَى ..
تُشَدُّ الرِّحالُ
وتُسْرجُ صَافِناتُ الجِيَادْ
ويمْتدُّ شوق الكلام العبابْ) فرحات عباس فضل المولى – نص تلك البنت « وفرحات عباس ، قد يكون شاعراً يعرفه القاص ، ايام الطلب ، وإن كان رمز الإسم والإشارة ، يشير الى المناضل فرحات عباس « الجزائر « وفضل المولى الى السودان ، والغناء الى ليلى وشد الرحال ، يحيلك طواعية إلى جميل معمر ، مجنون ليلى ، هذه الرمزيات قد يمر بها البعض ولكنها مهمة في التعرف على جودة وإجادة في كتابة النص، وان المدخل ، بإشاراته هو بوابة الحضور ولكان كل إشارة مدخلاً للنفس الإنسانية في تجليات تكمن في النموذج ودلالته ودالته وبوابة التأويل – الإشارة :
«لم تكن الفكرة تخصني بأي حال من الأحوال .. أنت الذي طرحت الأمر وألححت عليه وفرضته علينا.. حتى أنّ عثمان حينما واجهك بأنّ الأمر يحتمل مآرب أخرى تضمرها ولا نعلمها ، ثارت ثائرتك ونفيت ذلك مُشدداً علي التجربة وجمال المنطقة التي سنزورها.. تهامس الآخرون في خبث واضح.. لم يثنك ذلك أيضا وازددت تمسكا بالفكرة.. لا أكذبك انه في دواخلي كان هناك حنين غامض يشُدُنى إلي هذه الفكرة.. الأجواء المتوفرة هناك لا تتوفر لدينا هنا.. الأشياء هناك مشبعة بالفرح المنساب تلقائية وصدقاً.. أشياء لا توجد إلا هناك.. دواخلي كانت تطير فرحا حين قررتم المضي في الأمر رغم أنني في باديء الأمر كنت أتزعّم المعارضين.. ما هذا الشيء الذي يجعل قلبي يتقافز فرحاً؟ الشيء الواضح أمامي هو ذلك الطريق المُتْرب والذي تكثر تعرجاته وتلك الوديان ومجاري المياه العديدة.. ارتدته أكثر من مرة وأنا في طريقي إلي المدينة الكبيرة حينما لايكون هنالك مفر من ارتياده .. كنا عندما ننزل المدينة الكبيرة عبر هذا الطريق يكسونا الخجل من منظرنا المترب وثيابنا الملتصقة بأجسادنا من جراء التعرّق المتواصل .. كان منظرنا يُنبيء عن ريفيتنا التي نحاول إخفاءها بعد أن حرّضتنا علي ذلك المدارس والاطلاع على العالم خارج المدينة الصغيرة .- نص تلك البنت». ونحن هنا امام خطاب ليس للراوي به.علاقة، يتجاذب اصدقاء حديثاً حول رحلة ، زيارة مكاناً معروفاً لهم به ذكرى وذكريات «أنت الذي طرحت الأمر وألححت عليه وفرضته علينا.. حتى أنّ عثمان حينما واجهك بأنّ الأمر يحتمل مآرب أخرى تضمرها ولا نعلمها ، ثارت ثائرتك ونفيت ذلك مُشدداً علي التجربة وجمال المنطقة التي سنزورها.. تهامس الآخرون في خبث واضح.. لم يثنك ذلك أيضا وازددت تمسكا بالفكرة.. – نص تلك البنت» في المفتتح ثمة ماهو ظاهر وباطن، ومغلف بالنفي ووجود مأرب ما في بحيرة الاصدقاء التي تجد في عمقها دائماً بعض :خربشات» عن الفكرة ،وصاحب الفكرة ، ليس في الامر توارد خواطر ،بل عن ذكرى لديها عطر ما يؤكد ان من ينفي الإلحاح على تنفيذه هو صاحب الفكرة والإلحاح
..الحركة..والتحرك..
.«تحركت بنا العربة الصغيرة المستخدمة لنقل المسافرين بين مدينتنا الصغيرة والقرية التي نقصد .. كنا نجلس علي كنبتين مكسوتين بجلدٍ رخيص على هيئة صفين .. بينما تجلس أنت وحدك بالمقعد الأمامي جوار السائق بعجيزتك الضخمة وكرشك المتهدلة أمامك … وضعاً أكسبك أهمية زائدة أمام السائق والذي كان يظهر لك الكثير من الإحترام وأنت تقدم إليه السيجارة تلو الأخرى … وفي الأخير هو يعلم أنك من سيقوم بدفع أجرة السفر ….
مضى أكثر من نصف الساعة والعربة تتهادى في الخلاء الممتد … تنحرف يسرة ثم يمنة … ترتفع حيناً وتنخفض آخر … ملامح القرية بدأت تلوح .. الخضرة بادية أمامنا، أشجار النيم الضخمة تتناثر على أطراف الطريق الترابي، شجيرات عديدة أخرى لا أدري لها اسماً تنتصب هي الأخرى على جنبات الطريق .. المواشي تتبختر على الطريق المتربة يتبعها صبية صغار ملابسهم بلون الأرض .. شباب ورجال في العقد الرابع من العمر يعتلون ظهور الحمير ويُجِدّون السيرَ نحو الأراضي الزراعية التي تمتد أمامنا إلى مالا نهاية – نص تلك البنت».
هذه انتقالة من المكان الفكرة / الى تنفيذ الفكرة في المكان المختار ، حركة حقيقية داخلية ، تتبدل حالة الوصف كما ان مقطع اغنية هذه ليلتي « وديار كانت قدبما ديارا ، سترانا كما نراها قفارا ..اما سوف تلهو بنا الحياة ، تجدها في وصف جلسة خلف السائق وحديث انس ، تقطع توارده ، نار دخان السيجارة ، واشجار الطريق ، وتراب في المسار هو دليل مواقع ستحجزها في القلب والخاطر ، نحو افق جديد حيث البساطة والنقاء والتقاء السكينة بالطمأنينة في رحلة كل منهم يغني ليلاه. هذا المشهد السردي ، في تسلسله زماناً ومكاناً ، يمثل صورة انتقال ومشهد يحمل داخله ، وعورة طريق ، ومسالك ودروب هي قمة انتقال السارد من زمن الى آخر ومكان رغم صعوبة ارتياده هو محطة وصول إلى مرفأ لن تزيده حالة السراب والماء البعيد.الوصول الى واحة خضراء لمن طلب الوصول..وطلب الوصول وصال .. ….
المبنى . ..
«مدخل القرية ،شارع واحد نظيف … المباني متشابهة … الطريق يشقّ القرية إلى نصفين .. حركة الأهالي داخل القرية متسارعة .. نسوة بملابس زاهية ومحتشمة يَسِرْنَ بمحازاةِ الجدران وأنظارهنّ إلى الأرض … والرجال بملابس بيضاء نظيفة يقطعون الطريق جيئةً وذهاباً في خطوات قوية ونَشِطَة…….
الصغار يتقافزون فرحاً ، وبعضهم يطارد عربتنا ملوحاً في فرح حقيقي … بين الحين والآخر تنطلق زغرودة مُنغمة … يطير قلبي .. أحس بصدري وكأنّ كتلة من لهب اخترقته … تنقطع الزغرودة فجأة ، ثم تنطلق أخرى يختلف تنغيمها عن سابقاتها … يكاد يقتلني الفرح وشيء آخر لا أدري كنهه … ترجلنا أمام بيت العرس .. عدد كبير من الرجال كان في استقبالنا … صافحونا بحرارة … يأخذك الواحد منهم في أحضانه ثم يُفلتُك ليأخذك ثانية أخرى ، ثم يمسك بكفك بقوة ويهزك لثوانٍ معدودة كفيلة بأن تجعل جسدك يرتجّ جميعاً … همس في أذني عصام ( الناس ديل سَلامُن قوي ) لم أستطع منع نفسي من الضحك … فعصام لم يكن قد تدجّن بعد ، فهو وُلد وتربى بالدول الأوربية تلك البلاد التي قيل أنها (بلادٌ تموت من البرد حيتانها ) – نص تلك البنت « . إلمام السارد بثقافة المكان تجعل منه الشاهد والدليل نحو عالم به من الجمال الكثير ، الرحلة في طياتها تمثل بالضرورة صوت الطبيعة الساحرة والبيئةالودودة في الترحاب «- دَخِّلوا الضيوف على ديوان حاج أحمد .
جاءنا الصوت قوياً … ووقع على الرجال موقعاً جعلهم يهرولون جميعهم نحونا … وفي ثوانٍ كنا بداخل ديوان حاج أحمد … لم نكن نتطلع الى الوليمة .. هكذا حدثني الرفاق … وأنت في طليعتنا لم تكن تتطلع الى الوليمة … كنت تنتظر المساء… تذكرت في تلك اللحظة همس الرفاق … مؤكد أنك تضمر شيئاً … ماهو هذا الشيء ؟» الثابت في المناسبات ان القادم من بعيد ، تستقبله القرية بالوليمة ، عدم الاهتمام بالوليمة رغم مشقة السفر تخفي مآرب اخرى ولكن ماهي ؟ ليس السائل بأعلم عن الراوي العليم ولاكاتب الدراسة ولاحضور المناسبة والضيوف ، اشواق خاصة ومخصصة تظهر علاماتها في اللهفة وترقب دخول المساء
«مامن شكٍ في أن القرية جميعها كانت هناك … ساحة واسعة … الأرض نظيفة والإضاءة قوية جداً … وواضح أنّ وَصْلات الكهرباء كانت تمتد من ديوان حاج أحمد ….
الفَتَياتُ جلسن تحت (نيمةٍ )عظيمة … بملابسهن الزاهية وجمالهن الباديء … جمالٌ لا تخطئه العين … بكرٌ كما الأرض … أذكر جلسنا في مواجهتهن … الفِتية كانوا يحيطون بهن … وانطلق الغناء … وتبختر العريس مزهوّاً وسط الساحة.. مُمسكاً سيفاً وسوطاً … يرفع الفتية عصيّهم الغليظة لتبين عضلاتهم المفتولة ويهزّون بها على العريس والذي كان خفيفاً من الفرحة …نص تلك البنت « بدات الحفلة ، وحضور العريس بسيفه وسوطه، ومع ذلك الحفلة لم تبدأ ، هناك من له حفلته الخاصة والمناسبة هي جزء من نسيج اجتماعي، مغلف بالانتظار وكل يغني ليلاه.، واين ليلى ؟ «
أصوات الفتيات الندية كانت تغازل آذاننا فيسري داخلها ذلك الخَدَر اللذيذ ….
وين وين وين تلقوا زي دا
عروسنا المنقة المتلّجة
كنت أنا وقتها معنياً بالغناء وحلاوته ونداوة أصوات الفتيات والإهتزازات المتوافقة لاجسادهن المتوثبة والإيقاعات الصادرة عن (الدلوكة ) ، وكذلك تتبع آثار الفرحة على الجميع، وتلك التي على العريس …. بينما كنت أنت معنياً بتلك التي تحمل( الدلوكة )وتُوقّع عليها … همستَ لي باسمها … من الذي أخبرك أن اسمها هو زينب؟ عيونها واسعة كتلك التي يتغنى بها الشعراء ، كل شيئ في صاحبة (الدلوكة )كان رقيقاً ودقيقاً إلّا تلك العيون …. همست لي مرة أخرى هذه البنت ( جَبَدتَا حَبُوبتَا ) -نص تلك البنت»
..غياب النوم والغربة…
«لم تنمْ أنت ليلتها …. وكذلك أنا … بينما كان شخير الرفاق يَتَعالى، لم تحدثني ولم أحدّثك … مازلت أذكر صورتك وأنت مستلقٍ علي ظهرك تُناجي السماء … لم ينطق لسانك إلّا صباحاً ونحن نتأهب لركوب العربة التي ستقلنا :
سأرتكب الغربة …لابد لي من ذلك
وقبل أن أُعلّق همست لي:
ولِمثل زينب تُشدّ الرحال
وتُسْرجُ صافناتُ الجياد
تلك كانت آخر كلماتك .. افترقنا بعدها على صمتٍ مهيب، ثم بعدها.. سوياً ارتكبنا الغربة …… غربتي لم تكن كغربتك … كان صحبي فيها كُثر … وأنت غير ذلك … غربتي لم تمتد طويلاً … وأنت لم تزلْ تُناطحها وتنطحك … أحسّ بتعاطفٍ معك عميق ،وأنت تعاني غربة الروح والبدن … وتلك التي عيونها واسعة بعيدة عنك ولا تُكاتبك … وكيف تكاتبك وقد ارتحلت هي الأخرى إلى المدينة الكبيرة .. لابد وأن أحدهم أسَرّ إليك بخبر زواجها وأنها الآن أم لثمانية أطفال …. نص تلك البنت» رحلة طويلة ومسافر زاده الخيال وعلى الإنسان ان يتوغل في مدينة الخيال، لكي يصغر الصورة القديم ويقوم بتكبير إطار اللوحة – ام لثمانية اطفال، ينفذ الخيال باتقان الى داخل القلب لكي يصل إلى قلبها ليوجعه والوجع يلازمه مثل ظله وفي خياله…
«أقصُّ عليك كل هذا وأنا جالسٌ أَوَانَ مساءٍ بباحةِ المنزل ، وعلى حِجْري ديوان شعرٍ عتيق …. وعلى منضدتي كوبٌ من القهوة السوداء، أذْبتُ بداخلها لِتويّ مِلعقة صغيرة من السكر الأبيض وأطفالي الثمانية يتقافزون ويتصايحون في مرح لا أدري له سبباً …. وغير بعيدٍ مني تجلس والدتهم معتمدة كفيّها بوجهها تُحدّق إلى لا شيء … لا أكتمك أنني بين الفينة والأخرى كنت أتلصّص بالنظرِ إليها … ما عادت عيونها واسعه كما في السابق … لم تعد هي تلك العيون التى يتغنى بها الشعراء ..أشكّ الآن في أن لها سابق علاقة بحبوبتها …….!! ..نص تلك البنت» ثمة بناء في هذا النص البديع يمكن اعتباره «النص المثقف – متجاوز للعادية والسائد. والقاص محمد صديق محمد.احمد ،يطوف بنا وسط الزحام، وشنطة السفر ،لانرى الصفوف المعتادة و مقاعد «الباص» بل نرى خلفية سردية غنية، وصافية، وراكزة ،وكم هو بارع القاص في وصف تلك العوالم المدهشة ،لتلك البنت ،وجغرافية حضوره وحضورنا لتلك المناسبة..