عجائز وسجائر وحكايات

80
موسم الهجرة
Picture of محمد بوزرواطة - الجزائر

محمد بوزرواطة - الجزائر

-01-

 في رواية موسم الهجرة إلى الشمال(1966)،يتحدَّث الروائي السوداني الراحل «الطيب صالح» عن امرأة عجوز تُدعَى «بنت مجدوب» فاقت السبعين من عُمرها مات أزواجُها الثمانية ، غير مُكترِثةٍ بالموت بالمرّة، مُرتبطة بالحياة ومباهجِها  السَّارة، تجِدُ مُتعةً في الحديث مع  «الرجال»  مِمَّن يُقارِبنَها في السِّن أو يتجاوزنَها قليلاً،  وكانت لا تفتأُ تتحَّدَّث بحريةٍ تامةٍ عن مُغامراتها الجنسية عن أزواجها السابقين،في حَضْرة رجال القبيلة، وأعيانِها الكباروعلى رأسهم «وَدِّ الريّس».

-02- 

 الحقيقة  أنَّ هذا المشهد الذي أوْردَه «الطيب صالح « لم يَكُن مشهدًا مُتخيَّلًا أو مُقحَمًا في سياق الرواية بل كان مشهدًا مألوفاً في تلك البيئات الفلاحية السودانية المُوغِلة في العَراقَة والتقاليد البدائية المُحافظة، مع ذلك كان بمقدُور  هؤلاء النساء الطاعناتِ في  السِّن أن  يتعاطيْنَ التدخين بإفراطٍ  دُونَ أن يُشكِّل ذلك اهتزازاً  أو تضعْضُعًا في سُلّم القيم الريفية المُحافظة عَهْدَ ذاك،ولم يكن ذلك «عيباً» أو «حراماً»يستحق «الزجر» أو «العقاب».

فهل لَامسَت الرواية الجزائرية هذه المشاهد الواقعية والحيّة، ونقلتْها بأمانة دون الحُكم عليها بالسِّلب أو الإيجاب.

-03-

ربما تكون رواية «التفكُّك»(1982) لرشيد بوجدرة(1941) من الروايات المُهِمَّة التي انتبهت إلى هذه القضية الحسَّاسة، في المجتمع الجزائري ،و سلّطت الضوء على  هذه النوعية من النساء  كالعمَّة «فاطمة» ذات الناب الوحيد  ، امرأة لم تتزوج طِيلةَ حياتها، قاربت المئة سنة، ولا تزالُ تُدخِن بشراهة وذات لسانٍ سليط،إنَّها شبيهةٌ ب «بنت مجدوب» في الرواية السودانية التي أشرت إليها.

 سُقت ُهذا الكلام للتدليل على أن الأوساط الريفية في السودان أو في الجزائر ومن بينهِنَّ فئة النساء مِمَّنَ بلغْنَ من العُمْرِ عُتِيًا  لم يَكُن يجِدْن حَرجاً في التدخين أمام الملأ، دون أن يتعرضْن للمُضايقة أو المنع، ، بل كان البعض منهنَّ يتمتَّعنَ بمنزلة كبيرة نظيرَ خِبرتهن وحِنْكتِهنَّ في الحياة.

السينما العربية قاربت هذا الموضوع باحتشام، رُبمَا أشيرُ ، هنا إلى الفيلم المغربي المُتفرِّد «ليَّام يا ليَّام «(1978) لــ»أحمد المعنوني»(1944)، الذي تظهر فيها عجوز طاعنة في السن بإحدى الأرياف المغربية  تُدخِن  ويلتفُّ حولها النساء والرجال والأطفال للإصغاء إليها،و الإنصات إلى تجاربها في الحياة،فهل كان الوسط الريفي العربي مُتسامِحا إلى هذا الحَدِّ، بحيث تَركَ فسحة للحرية واختراق المحظور،دون أن يُشكِّل ذلك عائقا أو أن يفتح ثغرة-ولو صغيرة- للعنف والخصومات، قَبْلَ أن تَهُبَّ عليه عواصف التطرف الديني  والتشدُّد المقيت، وتُقلِّبُ-بالتالي- كل هذه القيم السَّمْحَة والتعايش الخلَّاق رأساً على عَقِب.

-04-

تساؤل ارتسَم في ذاكرتي بعد إعادة قراءة  رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» التي كتبها باقتدار  «الطيب صالح «(1929-2009)،عبقري الرواية العربية بلا منازع، مُلامِساً ،  من خلالها ودَاعَة الريف السوداني وتسامُحِ أهلهِ وطيبة ناسِهِ وتمسُّكِهم بالتُربة والنهر والنخيل…وأيضا بمخزون ثري لا ينضب  من الأقاصيص والحكايات التي لا تنتهي.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *