طفولة سودانية تحت القصف: بين مأساة النزوح وحديث الأمل

74
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل.

 • في ظل النزاعات المسلحة التي تعصف بالسودان منذ اندلاع الحرب الأخيرة في أبريل 2023، يعيش الأطفال السودانيون مأساة إنسانية مروعة، تتجسد في صورة طفولة تحت القصف وتحت القهر. تتداخل مشاهد الدمار والهروب مع صرخات الألم والحنين لحياة كان من المفترض أن يملأها اللعب والتعليم والحنان. إن قصة هؤلاء الأطفال ليست مجرد أرقام في تقارير الأمم المتحدة أو عناوين أخبار، بل هي واقع قاسٍ يستحق وقفة جادة وتحركاً عاجلاً من مختلف أفراد المجتمع الدولي والمحلي.

واقع النزاع واللجوء: حين تتحول الطفولة إلى كابوس

منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023، اضطر الملايين من سكان السودان إلى ترك منازلهم، حاملين معهم بقايا حياة كانت تسير على خطى الأمل. نساء وشيوخ، مرضى وشباب، إلا أن الفئة الأكثر هشاشة هي الأطفال؛ أولئك الذين لا يملكون لغة الدفاع عن النفس ولا خياراً في زمن تُقرّره البنادق. في خضم هذا الواقع المرير، يعيش الأطفال في بيئات غير آمنة؛ مدارس مدمرة، مخيمات اكتظاظية وخيام تعج بالخطر، وشوارع تنعدم فيها أيّ إشارات للأمان والاستقرار.

وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، تجاوز عدد النازحين داخلياً في السودان منذ اندلاع النزاع الأخير أكثر من 8 ملايين شخص، نصفهم تقريباً من الأطفال. هؤلاء يجدون أنفسهم محاطين بظروف تزيد من احتمالات تعرضهم للعنف بمختلف أنواعه، سواء كان جسدياً، لفظياً أو نفسياً. هذا الواقع المرير يتفاقم بسبب ضعف الدعم النفسي والاجتماعي، مما يجعل الأطفال عرضة لصدمات قد تمتد آثارها إلى سنوات طويلة.

العنف بأنواعه وآثاره: تجربة قاسية تتعدى الجراح الجسدية

لا يقتصر العنف الذي يتعرض له الأطفال على الحروب المباشرة والأصوات المدوية للمدافع، بل يمتد ليشمل العنف المنزلي الذي يحدث داخل البيوت التي من المفترض أن تكون ملاذاً آمناً. ففي سياقات النزوح، تتحول ضغوط المعيشة والصراعات النفسية إلى وابل من العنف داخل الأسرة، حيث يفرغ الآباء والأمهات المثقلون بالمعاناة إحباطهم على أبنائهم دون وعي أو قدرة على ضبط الانفعالات. تقارير من منظمات الطفولة تشير إلى ازدياد حالات الضرب والصراخ والحرمان من الغذاء والتعليم في مراكز الإيواء السودانية، في ظل غياب شبه تام للدعم المؤسسي والتوعية المجتمعية.

هذا العنف لا يترك فقط ندوباً جسدية، بل يترك أثراً نفسياً عميقاً؛ إذ يعاني الأطفال من قلق دائم، وكوابيس متكررة، وفقدان الشعور بالأمان والطمأنينة، مما يؤثر في قدرتهم على التعلم وبناء الثقة بالنفس. الأطفال الذين يشاهدون العنف ضد أحبائهم أو يتعرضون له بشكل مباشر، يصبحون ضحايا لصدمات مركبة، قد تمتد آثارها لعقود من الزمن، ليصبح مستقبلهم معتمداً على دعم نفسي واجتماعي لم يُوفر لهم حتى الآن.

اللجوء والشتات: تحديات جديدة لعالم الطفولة

لا يزال أطفال اللاجئين الذين تمكنوا من الفرار خارج البلاد يواجهون صعوبات جمّة، ففي دول الجوار تتعدد العقبات؛ من صعوبة الالتحاق بالمدارس، إلى العوائق أمام الحصول على الرعاية الصحية والتمييز الاجتماعي والاقتصادي. أطفال بلا وثائق وهوية قانونية يصبحون بسهولة فريسة للاستغلال، سواء كان ذلك من خلال العمالة القسرية أو الزواج المبكر للفتيات. ومع قلة الأنظمة الوقائية في بعض هذه الدول، يفقد هؤلاء الأطفال القدرة على المقاومة أو التعبير عن معاناتهم، مما يزيد من هشاشة وضعهم وتفاقم تداعيات النزاع في حياتهم.

الطفولة السودانية:  صوتٌ يبحث عن حماية وإنسانية

في خضم هذا المشهد الكارثي، يحتاج الأطفال السودانيون إلى أكثر من مجرد نجاة؛ إنهم بحاجة إلى حماية شاملة، تؤمن لهم حق الطفولة في اللعب والتعليم والحنان. كما قيل في النص الإضافي الذي يصرّح:

«تحتاج الطفولة السودانية اليوم إلى صوت، إلى قانون، إلى حضن، وإلى مدرسة. تحتاج إلى قلوب تتألم لصرختهم، وعقول تفكر في حلول جذرية لا تكتفي بالمسكنات». 

هذه الكلمات تؤكد الحاجة الملحّة إلى وجود تضامن إنساني يستمع إلى صرخات الأطفال، ويعمل على وقف أيّ شكل من أشكال العنف ضدهم، سواء كان ذلك في الخيام أو في البيوت التي كان يُفترض أن تكون ملاذاً لهم. قد لا نستطيع إيقاف الحرب غداً، لكننا قادرون اليوم على الوقوف مع أطفالنا، بإيقاف يدٍ ترتفع على طفل، أو نظرة قاسية، أو كلمة مهينة.

يمكننا أن نعيد بناء المعنى الحقيقي للأبوة والأمومة حتى في ظل الظروف القاسية؛ فلربما يكون السلام بعيد المنال، لكن زرع بذور التعاطف والرحمة في قلوب الناس، يمكن أن يخلق بداية جديدة لإنهاء دورة العنف. إن منظمات المجتمع المدني، والحكومات، والشتات السوداني، والشعوب المتضامنة حول العالم، جميعهم يمتلكون القدرة على لعب دور فعّال في حماية الطفولة السودانية، من خلال تبني سياسات تشريعية وإنسانية تتوقف عند حدود التعسف والعنف.

دعوة للتحرك: سياسات وحلول عاجلة

إن التحديات التي تواجهها الطفولة السودانية اليوم تتطلب سرعة البديهة، وتضافر الجهود على عدة مستويات. ومن الخطوات الفورية التي يمكن اتخاذها:

1. تفعيل مراكز الدعم النفسي والاجتماعي: يجب إنشاء برامج متخصصة في أماكن النزوح ومخيمات اللاجئين، مع تدريب كوادر متخصصة قادرة على التعامل مع الأطفال المتضررين من العنف النفسي والجسدي.

2. حملات التوعية الأسرية: نشر مفاهيم التربية غير العنيفة من خلال ورش عمل وبرامج توعوية، توجه الرسائل الصحيحة إلى الأسر النازحة، مما يساهم في تقليل العنف المنزلي وتأثيراته المدمرة.

3. تعزيز التعليم في حالات الطوارئ: إقامة مدارس مؤقتة آمنة، توفر بيئة تعليمية مستدامة ومحفزة للأطفال، تضمن لهم فرصة لمستقبل أفضل رغم اضطرابات الحرب.

4. دعم التشريعات الوطنية والدولية: العمل على سن وتفعيل قوانين تحمي حقوق الطفل، مع إعادة بناء آليات الحماية القانونية في السودان، لتكون بمثابة سد منيع ضد أي ممارسات تعسفية.

5. حشد الدعم الدولي والداخلي: تنظيم حملات مناصرة دولية للضغط على الجهات المانحة والمنظمات الإنسانية، وتفعيل دور الشتات السوداني والمجتمعات المتضامنة في دعم حقوق الطفولة.

                                                                     الأمل في وسط الظلام: بناء مستقبل جديد

رغم قسوة الواقع، يبقى الأمل متقداً في قلوب كل من يعمل على حماية الطفولة السودانية. إن الاستثمار في مستقبل الأطفال ليس مجرد خيار استراتيجي، بل هو التزام أخلاقي وإنساني يتجاوز حدود السياسة والحرب. من خلال التكاتف والعمل المشترك، يمكننا أن نصنع فرقاً حقيقياً في حياة هؤلاء الأطفال؛ فكل خطوة إيجابية تساهم في إعادة بناء الأمان والطمأنينة في حياتهم.

عندما نقول: «لا لتعنيف الأطفال… نحو طفولة آمنة رغم كل شيء»، فإننا نعلن بصوتٍ مرتفع أن كل طفل يستحق أن يعيش بكرامة، ويسطع في سماء الأمل رغم غياب النجوم في سماء الحرب. إننا ندعو المجتمع الدولي والمحلي إلى أن يكونوا صدًى لصوت الأطفال، يعملون دون كلل أو ملل من أجل حماية حقوقهم، وإعادة بناء مستقبل يعيد للعالم معنى الإنسانية.

إن مأساة الأطفال في السودان ليست مجرد معاناة فردية، بل هي قضية إنسانية عالمية، تستدعي منا الوقوف صفاً واحداً. إن حماية الطفولة ليست رفاهية في زمن الحرب، بل واجب أخلاقي وإنساني، يتطلب تضافر جهود الجميع. ما نحتاجه اليوم هو صدور حقيقية تنبض بالتعاطف والرحمة، ونظم قانونية تحمي الأبرياء من ويلات النزاع. إن الأطفال السودانيين هم حاضرنا ومستقبلنا، ومن خلال دعمهم وحمايتهم، نصنع غداً مشرقاً يعمه السلام والعدل.

بهذا التكامل بين تجارب الألم والمعاناة وآمال التغيير، يبدو الطريق أمامنا واضحاً: الطريق الذي يقودنا إلى وقف العنف، واستعادة حق كل طفل في أن يعيش حياة كريمة، بعيداً عن ظلمات الحرب وحدودها. هذا الكفاح من أجل الطفولة ليس مجرد قضية إنسانية، بل هو جسر نحو مستقبل يُعاد فيه بناء المعنى الحقيقي للأبوة والأمومة والرحمة، مهما اشتد الظلام حولنا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *