صراع الأجيال في السودان: من حنين الزمن الجميل إلى تحديات جيل الموبايل

16
فيصل محمد فضل المولى1

أ. د. فيصل محمد فضل المولى

أكاديمي وباحث مستقل

 المقدمة

• عندما نتأمل السودان في مساره الحديث، يطل أمامنا مشهد معقد يتوزع بين حنين عميق إلى الماضي، وانشداد قوي نحو المستقبل. كثيرون يتحدثون عن «الزمن الجميل»، ذلك العصر الذي كان فيه السودان أقرب إلى لوحة اجتماعية متماسكة، حيث البساطة والرضا والتضامن، وحيث الفن كان مرآة للروح والهوية. 

أما الجيل الحالي، جيل الموبايل، فهو يعيش في عالم مختلف تمامًا؛ عالم تهيمن عليه التكنولوجيا والسرعة والتغييرات المتلاحقة، وتكاد تحدد خياراته وطرائق حياته بشكل كامل.

لكن «صراع الأجيال» ليس مجرد ثنائية بين حنين للماضي وتطلع للمستقبل، بل هو انعكاس لتحولات بنيوية في المجتمع السوداني. هذا الصراع يفتح أبوابًا للأسئلة الوجودية الكبرى: كيف يمكن لمجتمع أن يحافظ على ذاكرته الجماعية دون أن يتجمد فيها؟ 

كيف يمكن لشباب نشأوا في زمن الهواتف الذكية أن يحملوا على عاتقهم أحلام وطن أنهكته الانقلابات والحروب؟ 

وكيف يمكن للآباء والأمهات أن يتواصلوا مع أبنائهم وبناتهم في ظل اختلاف جذري في المرجعيات والقيم والتصورات؟

إنها ليست مجرد مواجهة بين «جيل الزمن الجميل» و»جيل الموبايل»، بل هي لحظة اختبار حقيقية للسودان: هل يستطيع أن يوظف هذه التباينات كطاقة خلاقة لبناء المستقبل، أم سيتحول الصراع إلى مزيد من التشرذم والانقسام؟ 

هذه الأسئلة تجعل من الموضوع أكثر من قضية اجتماعية، بل تحديًا وطنيًا وجوديًا.

ملامح «الزمن الجميل»

في الذاكرة السودانية، يُنظر إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي وما بعدها كمرحلة اتسمت بجمال خاص. كانت العلاقات بين الناس أكثر بساطة ودفئًا؛ الجار بمثابة أخ، والأحياء تحولت إلى عائلة ممتدة. كان الأطفال يربَّون على قيم احترام الكبار، وكان المثل الشعبي هو المرجع الأول في حل النزاعات.

ثقافيًا، ازدهرت الأغنية السودانية بألوانها المختلفة: الحقيبة، الطمبور، الغناء الحديث، وكلها شكّلت مشهدًا فنيًا جامعًا. كان الناس يتذوقون الغناء في المناسبات، ويتفاعلون مع الشعراء والمطربين باعتبارهم صوت الوجدان.

سياسيًا، عاشت الأجيال الأولى بعد الاستقلال حلمًا كبيرًا اسمه «السودان الموحَّد»، حيث كان الانتماء الوطني في أوج قوته. الجامعات والمراكز الثقافية كانت مسرحًا للنقاش الفكري والسياسي، وشكّلت بيئة لبناء أجيال متعلمة وواعية.

يُسمى ذلك العصر «الزمن الجميل» ليس لأنه بلا عيوب، بل لأنه حمل في طياته شعورًا بالانتماء، بالأمل، وبوجود مشروع وطني جامع، حتى لو تعثر لاحقًا.

ملامح «جيل الموبايل»

منذ مطلع الألفية، ظهر جيل مختلف جذريًا في السودان. هو جيل الموبايل، الذي فتحت له الهواتف الذكية والإنترنت أبوابًا واسعة على العالم. لم يعد الشاب أو الشابة محصورًا في حدود الحي أو المدرسة أو الجامعة، بل أصبح جزءًا من فضاء افتراضي عالمي يتواصل فيه مع ملايين الآخرين.

تغيرت القيم بسرعة: لم يعد الحديث عن «مجلس الحلة» أو «اللمة في المناسبات» بنفس الزخم، بل حلّت محلها مجموعات «واتساب» و»فيسبوك». الموسيقى أيضًا أخذت منحى فرديًا ورقميًا؛ إذ يختار كل شخص ذائقته الخاصة من على «يوتيوب» أو «سبوتيفاي»، بدلًا من أن يشترك المجتمع في سماع أغنية واحدة كما كان يحدث مع أغاني مصطفى سيد أحمد أو محمد وردي.

سياسيًا، برز هذا الجيل في ثورة ديسمبر 2018، حيث استُخدمت الهواتف الذكية لتنظيم المواكب، ونشر الأخبار، وكشف انتهاكات النظام. جيل الموبايل أظهر وعيًا سياسيًا جديدًا، لكنه في الوقت ذاته أكثر نزوعًا إلى الفردية وأقل ثقة في الأطر التقليدية مثل الأحزاب والنقابات.

المفارقة أن هذا الجيل، رغم كونه أكثر اطلاعًا على العالم، يعاني من انقطاع في التواصل مع الأجيال السابقة، ويُتَّهَم أحيانًا بالسطحية أو ضياع البوصلة.

مناطق التلاقي والصراع

من الطبيعي أن ينشأ التوتر بين جيلين عاشا ظروفًا متناقضة. جيل الزمن الجميل يرى أن جيل الموبايل تائه، يفتقد إلى القيم الجماعية، ولا يعرف معنى التضحية أو الصبر. بينما يرى جيل الموبايل أن من سبقه مسؤول عن فشل المشاريع الوطنية، وتضييع فرص التنمية، والانزلاق نحو الحروب.

لكن، رغم ذلك، هناك نقاط التقاء مهمة: كلا الجيلين يحمل حلمًا بوطن أفضل. جيل الزمن الجميل حمله من خلال الأغنية والشعر والمشروع الوطني، بينما جيل الموبايل يحمله عبر شعارات الثورة والعدالة الاجتماعية. كلاهما يرفض الاستبداد، ويبحث عن الحرية بطرقه الخاصة.

الصراع إذن ليس صراع قيم فقط، بل صراع أدوات: من جهة، أدوات الماضي كالقصيدة والأغنية واللقاء المباشر، ومن جهة أخرى، أدوات الحاضر كالهاشتاغ، الفيديو القصير، والتواصل الرقمي.

انعكاسات الصراع على المجتمع

الأسرة

في البيت السوداني اليوم، نجد حوارًا متكررًا بين الأب الذي يرى ابنه أو ابنته ملتصقين بالموبايل طوال الوقت، والابن الذي يعتقد أن والده لا يفهم العالم الحديث. هذه الفجوة تولد توترًا، لكنها أيضًا قد تفتح مجالًا لتعلم متبادل.

السياسة

الساحة السياسية تمثل أوضح صور صراع الأجيال. فبينما ما يزال بعض قادة الأحزاب يستخدمون خطابًا يعود إلى السبعينيات والثمانينيات، يطالب الشباب بتجديد الخطاب السياسي، واستخدام منصات حديثة للتنظيم. كثير من الخلافات بين «شباب الثورة» و»القيادات التقليدية» يمكن تفسيرها ضمن هذا الصراع.

الثقافة والفنون

انتقلت الثقافة من الجماعية إلى الفردية. لم تعد الأغنية التي يطلقها فنان مثل وردي أو مصطفى حدثًا وطنيًا، بل أصبح كل فرد يبحث عن موسيقى تلائمه وحده. في المقابل، يبتكر الشباب أشكالًا جديدة من التعبير الفني مثل «الراب السوداني» و»الميمات»، وهي تعبيرات تعكس وعيًا مختلفًا لا يمكن تجاهله.

جسر بين الأجيال

بدلًا من أن يبقى الصراع قائمًا على شكل اتهامات متبادلة، يمكن تحويله إلى مساحة للإثراء.

• يمكن لجيل الزمن الجميل أن ينقل تراثه وذاكرته إلى المنصات الرقمية. مثلًا: أرشفة أغاني الحقيبة على «سبوتيفاي» أو «يوتيوب» بطريقة احترافية، لتظل متاحة للأجيال القادمة.

• ويمكن لجيل الموبايل أن يوظف أدواته الرقمية لنشر هذه الثقافة بطريقة إبداعية، عبر البودكاست، الفيديوهات القصيرة، وحتى الألعاب التعليمية.

• الحوار بين الأجيال ضروري، ليس فقط على مستوى الأسرة، بل أيضًا في السياسة والثقافة. فجيل الموبايل بحاجة إلى خبرة جيل الزمن الجميل، والأخير بحاجة إلى مرونة الشباب وقدرتهم على التكيف مع عالم سريع التغير.

البعد السوداني الخاص

خصوصية السودان تكمن في أن صراع الأجيال لم يحدث في فراغ، بل في ظل أزمات سياسية وحروب أهلية متكررة منذ الاستقلال، كان آخرها وأكثرها دمارًا الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023. هذه الحروب لم تُفقد الأجيال فقط فرصتها في التنمية والاستقرار، بل صنعت جدرانًا نفسية بين الشباب والكبار. فالشباب الذين وُلدوا في ظل العقوبات والانقلابات والنزوح الجماعي، ثم وجدوا أنفسهم يعيشون جحيم الحرب الأخيرة حيث فقدوا الأمان والبيوت والمدارس، لا يرون في خطاب «الزمن الجميل» سوى حنين قديم لا يغير الواقع، وأحيانًا يعتبرونه ترفًا بعيدًا عن معاناتهم اليومية.

في المقابل، ينظر كبار السن إلى المشهد بعين مختلفة؛ يرون أن سبب الكوارث هو تراجع القيم التي ميزت جيلهم: الاحترام، التماسك، التسامح، والقدرة على التضحية من أجل المصلحة العامة. بالنسبة لهم، ما يحدث اليوم من انهيارات ليس سوى نتيجة مباشرة لضعف الالتزام بهذه القيم، وكأنهم يرسلون رسالة للشباب: «لو تمسكتم بما تمسكنا به، لما وصلتم إلى هنا».

لكن الحقيقة أعقد من ذلك؛ فالأزمة السودانية ليست أزمة قيم فقط، بل أزمة أنظمة سياسية متعاقبة فشلت في إدارة التنوع، وأشعلت صراعات قبلية وجهوية، وأضعفت المؤسسات. ومع ذلك، فإن استدعاء خطاب «الزمن الجميل» يظل مهمًا لأنه يحمل دلالات على إمكانية التماسك والعيش المشترك، بينما تمثل أدوات جيل الموبايل وسيلة لا غنى عنها للتعبير والتنظيم وكسر العزلة.

من هنا تأتي أهمية بناء «رؤية مشتركة»: رؤية تُدمج بين إرث الماضي وأدوات الحاضر. هذه الرؤية يجب أن تتأسس على مبادئ العدالة الاجتماعية، إيقاف الحروب، الاعتراف بالتنوع الثقافي والإثني، واستعادة روح الانتماء الوطني. ولتحقيق ذلك، لا بد أن يتجاوز الجيلان لغة العتاب المتبادل، وأن يلتقيا على أرضية العمل المشترك: جيل الكبار يقدم خبرته وذاكرته، وجيل الشباب يقدم طاقته وأدواته الجديدة. بهذه المعادلة فقط يمكن أن يخرج السودان من دوامة صراع الأجيال إلى أفق شراكة تاريخية تعيد تشكيل الهوية الوطنية وتفتح الطريق أمام مستقبل أكثر استقرارًا وكرامة.

إن تأمل صراع الأجيال السوداني يكشف أنه ليس صراعًا في جوهره، بل هو تفاوت في الذاكرة والخبرة وأدوات التعبير. «الزمن الجميل» يمثل روح السودان المتجذرة في أصالته وقيمه وموسيقاه، وجيل الموبايل يمثل جسد السودان الجديد الذي يسعى لأن يتحرك بخفة وسرعة في عالم لا ينتظر أحدًا. 

إذا نظرنا إلى العلاقة بين الجيلين من زاوية التكامل، فسنجد أن المستقبل يملك فرصة نادرة: أن يجمع بين حكمة الماضي وإبداع الحاضر.

لكن إذا استمرت لغة العتاب والاتهام، فإننا سنبقى ندور في دوائر مغلقة، حيث يرى الكبار أن الصغار فقدوا البوصلة، ويرى الصغار أن الكبار هم من قادوا البلاد إلى الخراب. وبين هذه الرؤى المتناقضة، يضيع الوطن.

إن السودان اليوم بحاجة إلى حوار أجيال حقيقي، لا يبدأ بفرض القيم القديمة ولا بالاستهزاء بالحداثة، بل بالاعتراف بأن لكل جيل سياقه 

وظروفه. يحتاج الشباب إلى الاستفادة من تجارب من سبقهم حتى لا يكرروا الأخطاء، ويحتاج الكبار إلى الانفتاح على روح العصر حتى لا يعزلوا أنفسهم في نوستالجيا عقيمة.

المستقبل السوداني لن يُبنى إلا إذا تحوّل «صراع الأجيال» إلى «تلاقي الأجيال»، بحيث تتقاطع الذاكرة مع الطموح، ويذوب الحنين في الحلم، ويصبح الوطن مساحة مشتركة يعيش فيها الجميع. عندها فقط، سيغدو الحديث عن الزمن الجميل ليس مجرد استدعاء لماضٍ غابر، بل مصدر إلهام يُضيء طريق جيل الموبايل وهو يشق دروبه نحو غدٍ أكثر عدلاً وكرامة.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *