
محمد المهدي
مستشار التحرير وكاتب صحفي
• ما زالت بلادنا تخوض حربها ضد مليشيا الجنجويد، التي جعلت حياة الناس غير طبيعية، فقد نزح كثيرون من ديارهم، ولجأ آخرون إلى دول الجوار يرجون النجاة، لقد ظلت المليشيا توزع الموت مجاناً على المواطنين، فلم تسلم من تدوينهم المؤسسات التعليمية والعلاجية، ومحطات المياه والكهرباء، والأسواق، بل أرسلت حممها على الآمنين في بيوتهم، فقتلت الأنفس البريئة، ودمّرت المنشآت والمنازل.
في ظل هذه الأوضاع كان هناك جنود مجهولون، شمّروا عن سواعدهم، وتقدموا الصفوف، يمدُّون يد العون للمحتاجين، يطبّبون المرضى ويعالجون المصابين، ويعيدون صيانة المنشآت الخدمية وتشغيلها، ليجعلوا الحياة ممكنة في ظل الحرب.
نقف اليوم مع فئات ممن بادروا وساهموا ووضعوا بصمتهم وما زالوا يبذلون الجهد في تلك الميادين. لنرد لهم بعض جميلهم، ونقلِّدهم أوسمة موشحة بالثناء والدعاء لهم؛ لكننا مهما فعلنا فلن نستطيع أن نوفيهم حقهم، فجزاؤهم عند الله يوم توضع الموازين بالقسط.
عند بداية الحرب ظهرت الحاجة الماسة إلى إطعام الناس، بسبب فقد كثيرين مدخراتهم ومصادر دخلهم لتوقف أعمالهم، وهنا نهدي الوسام الأول لأهل العطاء الذين حبّبهم الله في الخير، فقد تسابق الخيّرون من أبناء هذا الوطن في توفير ما استطاعوا من المعينات، وتطوع آخرون يسهرون الليالي لإعداد الوجبات، ويشرفون على توزيعها على المحتاجين، مع ما يجدونه من عنت ومشقة، وما زال البذل مستمراً في هذا الميدان، وما زالت الحوجة قائمة.
الوسام الثاني نهديه إلى فئة أخرى كان لها إسهامها الكبير وجهدها المقدر، هم العاملون في الكهرباء والمياه، وقد عايشنا الاستهداف المتكرر من مليشيا الجنجويد لمحطات المياه والكهرباء، ومعاناة المواطنين من انقطاعهما، لكن العاملين في هذين القطاعين كانوا عند الموعد، مبادرين في كل مرة إلى إصلاح الأعطال وإعادة الخدمة بأسرع ما يمكن، معرِّضين حياتهم للخطر في سبيل أداء الواجب. وقد كسبوا معركتهم، وأفشلوا خطط المليشيا التي كانت تسعى لجعل الحياة مستحيلة، ودفع الناس إلى النزوح ومغادرة مناطقهم، فدورهم مشكور لا ينكره إلا مكابر أو جاحد.
الوسام الثالث نهديه بكامل التقدير وعظيم الامتنان إلى العاملين في المستشفيات، الذين بذلوا ما وسعهم من جهد وأكثر، وعملوا في بيئة تفتقر إلى الحدّ الأدنى من المقومات، ولا يتوافر فيها الأمان، فقد كان استهداف المستشفيات متواصلاً، والكادر الطبي والتمريضي يمارس عمله مقدماً دروساً في الصبر وقوة العزيمة، وتحمّل الصعاب، فقد تمكنوا بفضل الله وتوفيقه من إنقاذ حياة الكثير من المصابين، وإجراء العمليات الجراحية في ظل شح الإمكانات وانعدام المعينات، لكنهم أدوا الواجب ونالوا الرضا.
وإلى جانب الكوادر الطبية والتمريضية برز دور المتطوعين، الذين لازموا المستشفيات، يسارعون إلى إحضار الأطباء، ويتبرعون بالدم، ويبحثون عن الأدوية المطلوبة لتوفيرها للمرضى، وقد رفعت الأكف إلى السماء تدعو لهم بأن يجزيهم الله خير الجزاء.
مواقف وعبر
وردت في القرآن الكريم قصص لشخصيات من دون ذكر أسمائهم، لكن ركزت الآيات على أفعالهم ومواقفهم.
ومن هؤلاء الرجل الصالح في سورة الكهف، وصاحب الجنتين، ومؤمن آل فرعون، والرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، جميعهم لم تُذكر أسماؤهم. ذلك لأن المواقف الناصعة والتضحيات هي نماذج تتكرر في كل زمان ومكان، وليست حكراً على أسماء بعينها.
فيجعلنا القرآن نرى أن هذه المواقف قد تصدر منا نحن أو من الحيطين بنا. فالمواقف تتكرر، والعبرة ليست في من قام بها، بل في الفعل نفسه.
إن القرآن يعلمنا أن الأفعال هي التي تبقى وتُخلد. فشكراً لكل من بذل وأعطى وساهم وجاد بوسعه ولم تذكر أسماؤهم، فأفعالكم فخر لنا ودينٌ طوّقتم به أعناقنا.
شارك المقال