• كلما أحتشد القلب بالذكريات العذبة ، احتشاد النيل بموجه الدفاق ، لمعت ( بونا ) علي سطح الذاكرة ، قاصية و دانية ، كصارية مركب بعيد ، شد الرحال من المنابع البعيدة للحنين ، وصولآ إلي مصبات الحاضر المنساب نحو الأزل .
و تهمي أمطار ( المونسون ) هادرة ، تريق دم الحبر الأزرق ، علي شرفات الدفاتر المسكونة بحروف الحكايات و القصص العجيبة ، عن أرض يتردد رجع أجراس معابدها و كنائسها في ذات الفضاء الذي يحتضن آذان و تلاوة مساجدها. بلاد يصنع أهلها من كل مناسبة و ذكري دعوة للفرح و الإحتفال بالرقص و الألوان و الأضواء .
بلاد قهرت فقرها بالعلم و تعدادها السكاني الضخم بالعمل و الإنتاج و الإبداع و الابتكار ووضعت الدستور الأطول في العالم صونا لديموقراطية ما زالت تعض عليها بالنواجز و تتعلم من ممارستها كل يوم الآف الدروس رغم ما يشوب الممارسة من أخطاء .
و إذا كان القلب يعشق من أول نظرة أو أول بسمة ، فهذه المدينة الفاتنة ستوقعك في حبها من أول مطرة و موسم الامطار – غالبا – كان هو الموسم الذي يتزامن مع وصول افواج الطلاب الجدد الذين تم قبولهم بجامعة (بونا) و كلياتها المختلفة .
و موسم الأمطار في (بونا) هو موسم البهجة و الاحتفال بالحياة . و قد كان الدعاش الذي يسبق هطول الأمطار ، بمثابة الذكري التي تعيد للروح عطر الوطن البعيد .
هذه الأمطار ، غسلت خطواتنا الاولي بأرض طاغور المغني و نحن نسير علي أطراف الدهشة ، نغادر محطات الوطن و الاهل و الحنان لنقف علي عتبات تجارب جديدة و محطات جديدة و قطارات ستعبر بنا حيث تتشكل شخصياتنا و تتنوع تجاربنا و تتفتح بصائرنا علي عوالم مثيرة و غنية بالتجارب الذاتية ، الثرة.
و لقد كانت للمدينة ملامح و رائحة الأمهات الجميلات . الامهات اللواتي حين تدخل بيوتهن ، يغمرنك بالعناق فتغرق في بحر عطورهن المخلوط بالحناء و الصندل و التوابل و المسك و العنبر . الأمهات اللواتي تتناول من ايديهن أطيب الاطعمة و أشهاها ، يخلطنها بأسرار محبتهن التي تجعل للطعام مذاق لا يشبهه الا مذاقهن الممزوج بحليب ابتساماتهن و بنفسج قلوبهن .
كانت ( بونا ) بملامحها الشرقية و أزيائها الملونة البهية ، و أمطارها الخريفية السخية ، أم و حبيبة تطلع من كل قلب و كل عين مسكونة بالجمال . فيها أعدنا إكتشاف ذواتنا و خبرنا معادن الناس ، و تعلمنا دروس الحياة الصغيرة ، الكبيرة ، ممن أساء و ممن احسن الينا علي السواء .
كبرنا بتجاربنا و معرفتنا و عدنا بكنز من العلاقات الانسانية و الشخصيات التي أثرت حياتنا و لونت فصولها بكل الالوان و منحتنا حلل من البريق و الألق الذي لا ينطفئ علي مر الأيام .
منحتنا ( بونا ) عمق المعرفة و عصا العلم التي ما زلنا نتوكأ عليها في دروب الحياة الوعرة فتسهل علينا صعابها و تتفتح لنا كما الوردة دروبها و لها ممتنون .
و ل ( بونا) الجميلة سنظل نغني (رشقتني عيونها و أسرتني فنونها و بقيت مجنونها من اول مطرة).
شارك المقال