سنعود كما كنَّا… وأفضل

148
يوسف عبدالرضي2

يوسف عبدالرضي

شاعر وكاتب صحفي

• هل سيعود الشعب السوداني بعد الحرب كما كان؟ ذاك الشعب الودود، البسيط، المتماسك، الذي يتقاسم الفرح والحزن، ويتواصل في السراء والضراء، كما عرفناه دومًا؟

إنني لا أشك في ذلك لحظة. لم يدخل في خاطري شك في قدرة هذا الشعب العظيم على النهوض من كبوته، واستعادة إنسانيته ودفئه وصفائه. شكي الوحيد إن وُجد، فهو في التأخير عن هذه العودة، لا في تحققها.

لقد نشأتُ كما نشأ الملايين من السودانيين على إرث من الإلفة والمروءة والتكافل. عشنا في بيئة تشبه القلوب المفتوحة، لا تغلقها الطائفية، ولا تفسدها السياسة، ولا تُقسِّمها الجغرافيا. وحين وقعت الفاجعة، وانفجرت الحرب في وجه كل شيء، لم يتغير هذا الأصل، بل انكشفت المعادن، وتمسّكت النفوس بما بقي فيها من خير.

اختلفتُ مع بعض الأحباب حين ناقشنا هذا السؤال. رأى بعضهم أن ما جرى قد غيّر النفوس، وأن الدم والدمار قد نزعا من الناس ما تبقى من إنسانية. استندوا إلى الواقع الذي نراه: النزوح، الانقسامات، الصراعات، نبرة الحقد والكراهية التي تتسلل إلى الأحاديث. كل هذا صحيح، لكنهم – في رأيي – نظروا فقط إلى سطح الجرح، ولم يتأملوا في عمقه.

نعم، الحرب فتنة كبرى، تسحق الأمان، وتزلزل الثقة وتُعري النفوس، لكنها أيضًا معلم قاسٍ، ودروسها رغم مرارتها، لا تُنسى. الشعوب التي مرت بالكوارث والمحن، وعادت أقوى، لم تُولد من جديد صدفة، بل خرجت من رحم الألم بإرادة الحياة. وإرادتنا في الحياة، كشعب سوداني، لم تمت. بل تتجدد كل صباح. سنعود، لأن المصائب التي لا تقتل، تقوّي. لأن الشعوب لا تنهض من الرخاء، بل من الصدمات الكبرى. وكل ما عشناه من خوف وقهر وجوع وتشرّد، سيكون طاقة دافعة للنهوض. سنعود، لأننا نُدرك تمامًا أن هذه الحرب ليست قدرنا، وليست نهاية الطريق، بل هي عثرة على طريق طويل من البناء والتقدم.

سنعود، لأن الحب الذي بيننا لم يمت، والحنان السوداني لم يرحل، بل ينتظر لحظة العودة ليظهر أقوى وأجمل. كنّا نسمع عن اللجوء، والآن نعيشه بكل وجعه؛ وهذا وحده كافٍ لأن نُمسك بالأرض بأيدينا وأسناننا، فلا نتركها بعد الآن لأي نزاع أو طمع أو استغلال. سنعود، لأن لدينا إرثًا من القيم لا تندثر، وتاريخًا من الألفة لا يُمحى، وأمثلة من التضامن تُدرّس.

وسنعالج الجراح بطريقتين:

أولًا: الجراح المادية، من تشقق الطرقات، ودمار البيوت، والمصانع، والمدارس والمستشفيات. سنبنيها من جديد، لا بالأسمنت فقط، بل بالعزيمة، وبأحدث الآلات، وبعقول مهندسين خرجوا من تحت الركام.

وثانيًا: الجراح النفسية، وهي الأخطر. لن تُشفى بالكلام فقط، بل بالاعتذار والتواضع والتصالح، بالتذلل لبعضنا البعض، والرضاء، ونكران الذات، والتخلي عن مشاعر الحقد والكراهية والانتقام.

إذا أردنا أن نعود كما كنّا وأفضل، فلا بدّ أن نُعيد بناء الإنسان قبل البنيان. نربي الأجيال القادمة على كره الحرب، ونحدّث صغارنا عن زلّتها وخسارة القتال، ونزرع فيهم معنى الوطن، لا القبيلة، والانتماء للأرض، لا للسلطة. وسنعود، لأننا سنضع الأسس السليمة لكل مشروع مستقبلي. لن نترك الأمور تُدار بالعشوائية، ولن نبني بلا تخطيط، ولا نحكم بلا عدالة، ولا نتحدث باسم الناس دون تفويضهم. تعلمنا أن كل تأخير في الفهم عصيان، والعصيان في هذا السياق لا يُعالج بالعقاب فقط، بل بالفهم العميق لدرس التطور. العقوبة الجماعية ليست في الخراب وحده، بل في الإصرار على تكرار الخطأ. أما النجاة، فهي في أن نبدأ الآن، لا غدًا.

ما جرى كان امتحانًا قاسيًا، ودفعنا ثمنًا باهظًا، لكن الأوطان لا تُشترى إلا بالتضحيات. كل دمعة، كل شهيد، كل أمّ مفجوعة، كل نازح جائع، كل بيت تهدّم، سيكون حجرًا في بناء سودان جديد.

سودان لا يُقصي أحدًا، ولا يظلم فئة، ولا يُدار من فوق، بل ينبض من القاعدة، من الناس، من الشارع، من القلوب.

سنعود، وهذا وعد… لا رجاء.

 

شارك المقال

1 thought on “سنعود كما كنَّا… وأفضل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *