
م. معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• الزمن هو العملة الوحيدة التي ننفقها جميعاً دون أن نعرف كم تبقى في رصيدنا…!
حقيقة تصفعنا برقّتها وتوقظ فينا الأسئلة المؤجلة…!
كم مرة أنفقنا من أعمارنا ساعاتٍ في الانتظار..؟وكم مرة بعنا أيامنا مقابل «بكرة» لم يأتِ بعد..؟وهل سألنا أنفسنا يوماً: لمن نهدي أعمارنا، وكيف نصرف أثمن ما نملك..؟
في قلب الثقافة السودانية يتأرجح مفهوم الزمن بين المحبة والتراخي، وبين «تعال بعد شوية» و»حسي بنجيك»، وبين «المواعيد ما مهمة» و»السوداني دايماً آخر زول يجي».
لكن الحقيقة..
نحن لسنا أعداء الزمن دائماً…!
نحن فقط أبناء حكايات طويلة، نُحب أن نرويها قبل أن نبدأ أي شيء.
ورغم تلك الرخاوة الظاهرة في علاقتنا بالوقت، إلا أن هناك رومانسية خفية فيها
حين يجلس أحدهم أمامك ساعات بلا ملل فقط ليستمع إليك..!
وحين يكون لدينا مريض نظل بالأيام مرابطين في فناء المستشفى على البروش..!
حين يؤجّل المزارع موسمه لأنه لا يريد أن يزرع وحده، بل في «النفير»..!
وحين نترك كل شيء جانباً لنغسل الموتى، ونعزي فيهم، أو نعدّ الطعام للجيران، أو نقطع المسافات في الأعراس والأتراح بلا حساب لساعةٍ ولا الأيام…!
تلك ليست لا مبالاة بالوقت، بل تقديس له حين يكون «الزمن إنساناً».
لكن بين تلك الرومانسية وهذا الواقع»تنهشنا حقيقة أخرى:
أن الزمن يمر…!!!
لا يعود…!!
ولا ينتظر…!
أنّ ما ضاع منّا في العلاقات غير المتزنة، وفي التسويف، وفي الخوف من التعبير عن الحُبّ، هو في الحقيقة من رصيد أعمارنا.
وأن كل «كان ممكن»،
وكل «بعد شوية»،
وكل «ما في داعي نستعجل»،
كانت لحظات ندفع فيها من عملتنا الوحيدة دون أن نحسبها.
لهذا علينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا.
أن نعطي أسرتنا، أحبابنا، أصدقاءنا، زهرة عمرنا، وأجمل ما في وقتنا، لا في اللهو والعبث، بل في ما ينفع، في ما يبني، في ما يورث أثراً من نور في أرواحهم وقلوبنا.
فالأوقات التي نقضيها في وصل الأرحام، وفي ضحكةٍ صادقة على فنجان شاي، في حوارٍ عميق مع من نحب، هي أغلى من كنوز الدنيا.
وكما تغنّى الفنان العملاق إبراهيم عوض- له الرحمة- بصوتٍ فيه من كل الرجاء بقدر ما فيه من حُبّ للحياة ومن ندم دفين حين قال:
«يا زمن وقف شوية
يا زمن أرحم شوية
واهدي لي لحظات هنية
وبعدها شيل باقي عمري
وشيل شبابي شيل عينيا»
كم تختصر هذه الأبيات مشاعر أجيال بأكملها تمنّت فقط لحظة دفء، لحظة اكتمال، لحظة لا يُسابقها الزمن ولا يُبدّدها الغياب.
إنه النداء الصادق لمنح الحُبّ فرصة، وللشعور بالسكينة وسط زحمة الحياة، والطلب بأن نهب من نحب «لحظات هنية»، حتى لو أخذ الزمن بعدها كل شيء.
فما نرجوه ليس الخلود، بل لحظة صدق واحدة تعيش للأبد في قلوبنا.
أكتب إليكم الآن لأنني لا أريد أن ننفق ما تبقى من أعمارنا بعيداً عمّن نُحِب.
لا نريد أن نكون مثل ملايين الذين يحملون الحُبّ لأمهاتهم وآبائهم وأزواجهم وأبنائهم وأهلهم، ولكنه ظلّ في طي الكتمان والبعاد كالحلم المؤجل.
أضاعوا أعمارهم في «إن شاء الله تلقانا في الزمن الجاي»…
ونحن نعلم، وتعلمون، أن الزمن لا يعود.
فلِمَ التأخر عمّن نحب..؟
عن أمهاتنا اللواتي انتظرننا عند الأبواب والدعوات،
عن أبنائنا الذين يسرقهم العمر ونحن مشغولون عن نظراتهم الأولى،
عن أزواجنا وشركاء حياتنا الذين لا يريدون أكثر من دفء القلب المغمور بالمحبة والتقدير، عن إخوتنا وأخواتنا الذين نتقاسم معهم الذاكرة والملح والحنين.
فالنلزم من نحب، فالعمر يمضي ولا يعود.
فلنَعِش اللحظة…!
نحترم الزمن، لا كساعةٍ على الحائط،
بل كنبضٍ في القلب،
وكأنفاسٍ على خدّ من نحب.
لأن أعظم تعبير عن الحُبّ…! أن نهدي من نحب وقتاً لا يُقاس وزمناً لا يُسترد،
أن نقول لهم:
«اخترناكم لتكونوا جزءاً من عمرٍ لا نعلم كم تبقى منه».
فالحُبّ الحقيقي لا يُقاس بعدد السنين، بل بلحظة صدق، بنظرة دافئة، بلحظة صمت نتشاركها ونفهم فيها كل شيء دون أن ننطق بشيء.
امنحوا من تحبون وقتكم قبل أن تأخذهم الأيام أو يأخذكم الغياب.
قولوها اليوم… «أحبكم»، فربما لا يتّسع الغد للكلمات.
وإن كنتم تبحثون عن هديةٍ لا تُشترى، فاهدوا قلوبكم زمناً صادقاً، واصنعوا معهم ذكرى واحدة تبقى حين لا يبقى من العمر إلا حنينه.
ولنقلها لهم دون تردد:
أنتم وقتي الذي لا أندم عليه…
وأنتم الزمن الذي أتمنى أن يتوقف عندكم إلى الأبد…
محبتي والسلام.
شارك المقال