رابطة أبناء مدني بمصر … وفقه الأولويات

7
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• وصلني في اليومين الماضيين تسجيل مصور لحفل أقامته رابطة أبناء وادمدني بجمهورية مصر العربية، فهالني ما رأيت!!

ونحن نقول، طالما ارتضى الناس بإراداتهم الولوج إلى أضابير العمل العام، فيجب أن يتحول عندهم النزق الشخصي إلى فعل متزن، وتصرف مدرك. وأن تنماع رغباتهم الشخصية مع عوز الناس وحوائجهم.

لكن يبدو أنَّ الرابطة الوليدة بفعل الصحبة والمخاللة، لا بداعي البغية والرجاء، قد فقدت بوصلتها من بداية الطريق، ولم تستصحب معها فقه الأولويات، وتحديد القضايا الأكثر أهمية، والتي تستحق الاهتمام الفوري، مقابل القضايا التي يمكن تأجيلها. في عالم مليء بالمسائل المتعددة، والمشاغل الكثيرة، يصبح من الضروري أن نتمكن من ترتيب أولوياتنا بشكل صحيح، لتحقيق النجاح في حياتنا الشخصية والمهنية والاجتماعية.

وذلك يتضمن تقديم الأهم على المهم، وتأجيل الأقل أهمية. والهدف من كل ذلك هو تحقيق التوازن، والتركيز على القضايا التي لها تأثير كبير، وتجنب الانشغال بالشكليات، ومظاهر الاحتفاء التي تشغل الناس عن القضايا الأساسية المنوط بهم القيام بها.

هناك قضايا أيها السادة الكرام يتم تحديد الأولويات بناء عليها، فمنها ما هو مرتبط بالأثر والتأثير، وهي القضايا التي لها تأثير كبير على الحياة الشخصية أو المجتمع، يجب أن تكون في مقدمة الأولويات.

ومنها ما هو مرتبط بالوقت والحاجة، فبعض القضايا تحتاج إلى التعامل الفوري بسبب طبيعتها الزمنية، مثل الأزمات الطارئة، أو المشكلات العاجلة.

كما أنَّ القدرة والموارد المتاحة تلعبان دوراً كبيراً في تحديد الأولويات. إذ يجب توجيه الموارد نحو القضايا التي يمكن تحقيقها بشكلٍ فعَّال، وتعطي نتائج ملموسة.

ونؤكد هنا أنَّ تأجيل القضايا الأقل أهمية ليس بالضرورة تقليلاً من شأنها، بل هو ترتيب للجهود والموارد، لتحقيق أكبر قدر من الفعالية. يجب تحديد القضايا التي يمكن تأجيلها دون تأثير كبير على المجتمع، والتركيز على القضايا الأساسية.

لكن القضايا الأقل أهمية، لن تكون بأي حال من الأحوال، تلك التي قامت بها الرابطة، وتمثلت في مظاهر الاحتفال البائسة، التي ابتدعتها في مصر، وفي هذه الظروف الحرجة والفريدة في حياة السودانيين عموماً وأبناء مدينة وادمدني على وجه الخصوص.

فهذا حتماً لا يندرج ولا يؤسِّس لأي نواة أو قيمة من المعايير الأخلاقية السوية.

أحسست ببؤس الفعل عندما تزامن وصول التقرير المصور للاحتفال مع مقاطع من الصور والمقاطع الصوتية، وصلتني لمجموعة من الشباب في مدينة وادمدني، يستنجدون فيها الناس لمد يد العون لأسر لا تجد ما تأكله، ناهيك عن الأمراض التي تنهش في أجسادهم بلا رحمة.

صورتان متناقضتان، تسردان لنا دراما واقعية، وتمايزان ما بين الحاجة والغفلة… ما بين الألم والمتاجرين به.. ما بين الضنك وحب الذات.

لَيْتَهم اقتدوا واهتدوا بما تفعله رابطة أبناء مدني بمدينة كسلا، الذين يستقبلون أبناء المدينة القادمين إليها هرباً من الجحيم، ويوزعونهم على مراكز الإيواء، وتقديم أيادي العون لهم من مأكل وملبس ومشرب، ويتعدى الأمر إلى إرسال المعينات المادية، والعلاجات الطبية إلى محتاجيها داخل مدينة وادمدني. فهؤلاء قوم فتح الله على بصيرتهم، وأنار قلوبهم إلى طريق الحق بلا مَنٍّ ولا أذى.

إلا أنَّ أبناء وادمدني في مصر، لعلهم أرادوا ألا يتركوا للناس مساحة للحزن. وأن ينشروا التفاؤل والسرور خارج الديار وفيما بينهم، وإعادة التأهيل النفسي للجماعة.

ونحن بدورنا نتساءل: أيهما أولى بالعناية؟!!

أفلا يحزننا موت الآلاف بالأسى والكمد هناك؟

كم يحتاجون من المرضى والقتلى والمشردين، حتى يُستدر عطفهم، وتستثار بوصلتهم؟!

لكن بعض الناس يحبون المظاهر أكثر من حبهم للعطاء، فلا يستطيعون العيش دون مظهر زائف أو حقيقي، ويعيشون وَهْمَ مقامهم، وهالة علو شأنهم، وأهمية أشخاصهم، وسمو مناصبهم، وخطورة وظائفهم. يحبون الظهور، ويعشقون الإعلام، ويبحثون عن الشهرة، ويسعون للذكر، ويتعمدون الجلوس في الصفوف الأولى، والمقاعد المتقدمة، حريصون على تقديم هالة مثالية لذواتهم…

عندما يبحث أحدهم باستمرار عن التزلف ولفت الانتباه وهو مهووس بالصورة التي يقدمها. لا يفهم كم هي سقيمة هذه الرؤية، التي تختفي في الوقت الملائم، وسيجد نفسه فارغاً، ومن دون شيء يتشاركه مع الآخرين، أو يقدمه لهم.

لا مكان اليوم لأحدٍ يدعي نبوءة… أو يبشرنا بفتح من عنده..

وإلا فليقولوا لنا ماذا يستفيد إنسان مدينة وادمدني من إقامة حفلات غنائية، تؤجر لها القاعات، وتوزع فيها الطيبات، وهو يُقتل هناك بالجوع الكامن مرة، وبالمرض الفتاك مرة أخرى، وبالجنجويد العفاشة مرات؟

ماذا ربحت البطون الفارغة هناك، من عروض الأزياء، وآخر صيحات البدل الإفرنجية الفرنسية، والجلاليب والشالات السويسرية المطرزة التي ظهر بها الأعيان؟

وماذا غنمت الحشود التي قتلتها الذلة، وفتكت بها مرارة الاحتياج من آخر ما أنتجته خطوط الموضة وبيوت الأزياء النسائية؟

كم أنفق كل هؤلاء للوصول إلى مقر الاحتفال الميمون؟

وكم أنفقت الرابطة المبجلة في سبيل خروج هذا الاحتفال الباهي بصورته القشيبة تلك؟

أما كان الأولى إنفاق ذلك لإنقاذ عشرات الأسر، الواقعة في براثن الجوع والمرض والحاجة؟!

إنسان مدني يحتاج أي شيء وكل شيء إلا هذه البدعة الخائبة، التي قام بها الأكابر والوجهاء.

إخوتي الأكارم.. الحصة وطن.. يتساوى فيه العطاء مهما ضؤل.. وينعم فيه الجميع… لا مجال عنده لسلَّابٍ أعماه الأخذ، وضعفت عنده بصيرة العطاء.. ولا فسحة فيه لمخاتل تعامت عنده نعمة البصر.

يبدو أنَّ ما صرنا إليه، لا مجال فيه للعظات والعبر، فلم يزدنا إلا خبالاً.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *