دمنا وصمغنا: عندما تصبح الموارد نقمة

1019
الناجي صالح

الناجي حسن صالح

رئيس التحرير

• الرصاصة التي لا تُطلق لا تُرهب أحداً. والصمغ الذي يُباع بلا شروط يصبح مجرد سلعة في سوق الخصوم.
في كل عام، تخرج مئات الآلاف من الأطنان من صمغ الهشاب من سهول القضارف والغرب الحبيب، إلى مصانع أوروبا وأمريكا كما تم إعلانه مؤخراً. إنه «الذهب الأبيض» الذي تُبنى عليه صناعاتهم الدوائية، وحلوى أطفالهم، وحتى مشروباتهم الغازية. نحن نعلم قيمته. هم يعلمون قيمته. لكننا نتصرف كما لو أننا لا نعلم!
المواطن العادي الذي لم يدرس نظرية «القوة الناعمة»، يعرف أن الموارد ليست نقمة، إلا إذا أُهدرت كورقة ضغط. فالصمغ العربي ليس مجرد مسحوق يُباع بالدولار، بل هو رافعة سياسية لو عرفنا كيف نمسك بها. إنها معادلة بسيطة: ما لا يستطيعون صناعته، لا يجب أن يُباع لهم، ولا أن يُقدّم لهم بينما يطعنوننا في الظهر.
الولايات المتحدة تتهم السودان باستخدام أسلحة كيميائية عام 2024. هي الولايات المتحدة نفسها التي تستورد آلاف الأطنان من الصمغ العربي السوداني عام 2025… هذه ليست مفارقة. هذه معادلة استعمارية كلاسيكية.. إدانة الضحية واستنزاف مواردها في اللحظة ذاتها.
الشركات الأمريكية والأوروبية تشتري الصمغ بمواصفات «الأيزو»، بينما حكوماتها تبيع أسلحة بالوكالة بمواصفات «الإبادة». الفارق الوحيد أنَّ الأولى تخضع للمساءلة القانونية، والثانية تحتمي بغطاء «الأمن القومي».. أما نحن ففي غيِّنا سادرون.
لو كان الصمغ العربي مورداً استراتيجياً لأي دولة في الناتو، لكانت منظمة التجارة العالمية قد فرضت عقوبات على أي طرف يمس إنتاجه وتصديره. لكنه ينتمي للسودان، فالقواعد مختلفة.
الفارق أنهم يستخدمونه ورقة ضغط أحادية الجانب، فهم يفرضون شروطاً سياسية، بينما نحن نقدِّم التنازلات الاقتصادية الغريرة.
لننظر إلى روسيا والغاز، وإلى السعودية والنفط. هذه دول حوّلت مواردها إلى أدوات لتعزيز سيادتها، وبناء نفوذ استراتيجي يخدم مصالحها العليا. أما نحن، فنسارع بتعبئة الصمغ في أكياس التصدير قبل أن تجف فرية القصف الكيماوي الذي تتهمنا به نفس الدول التي نُغذي صناعاتها!
إنها ليست قسوة، بل واقعية التاريخ، فالأمم التي تبيع ضروريات حياتها من دون شروط، تصبح أمماً تُباع هي نفسها بثمن بخس. الغرب لا يحترم الضعفاء، ولا يقدِّر البائعين اليائسين. يحترمون فقط من يضع سكيناً على مائدة المفاوضات ويقول: «هذا سعره، وهذه شروطه».
اليوم، صمغنا يُستخدم لصنع أقراص الدواء التي تعالج أمراضهم. وغداً، قد نكون نحن من نحتاج الدواء لعلاج أمراض صنعوها في بلادنا.
السؤال ليس: «كم دولاراً سنكسب؟»
بل هو: «كم من الكرامة سنخسر؟»
فديم من يرفض التجارة، بل نأبى الابتياع من دون كرامة. فالتاريخ لا يتذكر التجار، بل يستحضر الذين وقفوا في وجه العاصفة وقالوا: «هذه حدودنا.. أرضنا والطوفان».
والتاريخ نفسه سيسجل أنَّ الصمغ العربي كان ينبغي أن يكون سلاح تفاوضنا، لا دليل إدانة ضعفنا.. لأنه لا توجد موارد فقيرة، بل توجد فقط إرادات ضعيفة.
سيبقى الصمغ العربي يتدفق إلى الغرب لأنهم يحتاجونه. وسيبقى دم السودانيين يُراق لأنَّ لا أحدَ يحتاجه. هذه هي المأساة الصامتة. نحن أمة تعيش على هامش التاريخ، تُكافأ على صمتها بالفتات، وتُعاقب على صراخها بالرصاص.
لكن تذكروا جيداً، أنَّ الأشجار التي تمنحهم الصمغ اليوم، هي نفسها التي ستشنق عليها الخيانة غداً.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *