داء الكذب المرضي في المجتمع السوداني

31
عزالدين ميرغني

عزالدين ميرغني

• في كل المجتمعات الإنسانية ، أقدمها ، وحديثها ، وفي كل الأديان السماوية المنزلة ، فإن الكذب يكاد يقترب من الفعل الشنيع المحرم . فهو ظاهرة أيضا قديمة مستمرة الي أن يرث الله الأرض ومن عليها . فالكذب هو قول اللاحقيقة ، وظاهرة نبذه ورفضه ، ناتجة من أذاه وضرره ، الخطير والكبير . فهو قد يدمر أسرا ، ويهز ثقة ، ويغير حقائقا ، ويجمل قبيحا ، ويسلب حقوقا ، ويدين بريئا ، ويبرئ مجرما فأضراره لا تعد ولا تحصي . فهو قباحة نفسية ، لأن الصدق هو قمة الجمال النفسي . لأن الحقيقة هي الحق الذي يثاب من يقوله ويدعو اليه في كل الملل والأديان . والصدق صعب لأنه مسؤولية دينية واخلاقية . والكذب سهل لأنه خيال لا يكلف غير بضعة جمل مسبوكة محبوكة . فهو لا يحتاج لأرجل يمشي بها في واقع الحياة العادي . ويقال في علم النفس الحديث ، بأن الإنسان الذي يكذب ، ينقصه المنطق بحيث يعتبر أن المستمع يصدقه ويقتنع بما يقول في كل وقت وحين . وبعض الاطباء يعتبرونه ، في حالة أن يزيد عن حده ، يعتبرونه نوعا من الجنون المؤقت ، لأن المجنون يعيش خارج درجة الحقيقة الواقعية ، فهو يعيش في واقع من صنعه وخياله المريض.

ولان العقلية الأوربية تمتاز بالمنطق والبراجماتية العملية ، فلا مكان لها لواهم كذًاب . والقانون لا يرحمه ، خاصة عندما يكون مسؤولا بيده مصالح الناس . والأمم الواعية لا يحكمها مسؤولا ديدنه الكذب . وقد يعتقد الكثيرون منا في عالمنا الثالث ، بأن فضيحة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ، مع المتدربة ( مونيكا) ، كانت لا أخلاقية جنسية ، فهي راضية ولم يغتصبها أو يتحرش بها ، وانما كانت غلطته الكبرى أنه قد أنكر العلاقة وكان كاذبا . وكذب المسؤول في أميركا جريمة فما بالك اذا كان رئيسا لأخطر منصب في العالم .

وعند علماء النفس فان اكبر مسؤول في هذا العالم هو الأب والوالد والذي يجب أن يكون صادقا دائما حتي لا تهتز ثقة أبنائه فيه وفي كل الحياة . ومن أسباب ازدياد حالات الطلاق في بلادنا هو اكتشاف الزوجة لداء الكذب عند الزوج . والذي كان يخفي حقيقته ويداريها . وقد تكون مهنته قائمة علي هذا الغش والكذب . والملاحظ لمسار الحياة الاجتماعية في بلادنا بأن الكذب المرضي قد تفشي كثيرا وسط الشباب من الرجال وهي ظاهرة من الذين يفترض بانهم عماد المستقبل ، والمستقبل لا يقوم بأعمدة الوهم والكذب . لأن الرجل الذي يكذب لا يكون رجل الحًارة ، والملمات ، والمهام الصعبة . والمسؤوليات الأسرية والوطنية . لأن الذي يزوَر الحقيقة لا يُؤتمن عليها . وللأسف فان ضحية الكذب دائما هي المرأة التي تقع سريعا في الحبائل ، فالعمر قد لا يسمح بالغربلة والانتظار . فكثيرا ما يكذب الشاب علي الفتاة مدعيا ثراء أسرته ، وأنه قريب فلان وعلان ، وانه يحمل درجة الماجستير في كذا وكذا.

والحقيقة المرة التي يجب أن تقال وهو أن كل الأطفال اللقطاء في الملاجئ ، هم ضحايا لغش وكذب الرجال ، الذي يوقع دائما البريئات حسنات الظن من البنات . وباسم الحب والزواج . وقد يكون هذا الشاب صادقا حتي الشهر الأول من الزواج ثم يتركها وتكون الضحية أطفالا جاؤوا بالحلال ولكنهم لن يروا والدهم مرة أخري . فهو نوع من اليتم يكثر في مجتمعنا . وقد يزيد هذا المريض عدد ضحاياه في أكثر من أسرة . هذه الاسر التي تضررت كثيرا من أهل الكذب من الشباب . فأعرف كثيرا منهم للواحد اكثر من خطيبة رسمية وغير رسمية ، ودون أن تعرف الأخرى ، وقد يستفيد ماديا ان كانت الفتاة من أسرة غنية ، وكثيرا من الشباب في الجامعات وغيرها يعشون علي أكتاف مثل هذه الأسر . وواحدة من أسباب تفشي هذه الظاهرة ، هو العامل النفسي ، بحيث يرضي الشاب الانا النرجسية المرضية ، والتي إما أنها كانت مفتقدة للحنان وتريد تعويضه بحيث فتاة واحدة لا تكفي ، وإما أنها كانت ذاتا مدللة ومتخمة بالحنان الخطأ ، وهو يريد استمراره بحيث تعوضه الفتيات حب الجدات والخالات.

وقد تلاحظ ان بعض الشباب من المعاقين نفسياً قد يميلون للكذب علي البنات وغيرهم حتي يعوضوا حرمانهم . ولكن أغلبهم من أهل الوسامة ، والأناقة حتي يكمل نقصه المادي غالبا ، بالكذب والادعاء ، فيعدد الدول التي زارها ، والكتب التي قرأها ، وأعتقد بان ما يُعزي لتفشي هذه الظاهرة المرضية ، وسط الكبار والصغار في بلادنا هو ظهور الفوارق الطبقية في بلادنا ، وظهور المال والنعمة لمن لا يستحقونها ، ظلامية المستقبل المجهول وشبح العطالة التي تنتظر الشباب ، بحيث يكون الكذب نوع من التخدير المؤقت ، والذي قد يصبح ادمانا طول الحياة . وأول ضحايا هذا الإدمان هو نفسه التي بين جنبيه ، فهو يهدهدها ويصبرها حتى تستكين وتستسلم شبه ميتة ، خانعة ، مغشوشة ، فيموت فيها الطموح وتبقي ساكنة وسلبية لا فاعلة ولا منفعلة مسجونة أبدا في دائرة الكذب . وغالبا ما يكون الإنسان الكاذب ذو خيال غني ، وقد يملك منطق الإقناع بما يقول ومن هنا يقع الضحية ، والكذبة نفسها هي قصة قصيرة لها اغلب شروطها ، فهو قاص لم يستفد منه ليكون كاتبا مبدعا . وتلك هي مسؤولية الأب المثقف الواعي والذي يجب أن يلاحظ ميل طفله للمبالغة والزيادة في الكلام في ان يوجه ميوله للإبداع حتي يكون مبرزا في الأدب والفنون او الخلق والابتكار.

ويقول علماء الاجتماع بأن الكذب يزداد مع الأزمات الاقتصادية ، كنوع من التعويض والمباهاة والمسايرة الكاذبة خاصة وسط الشباب . ورمضان كريم فهو الشهر الذي يعلم الصدق مع النفس ومع خالقها.

وصلة :

قال الرسول صلي الله عليه وسلم ، ما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتي يكتب عند الله كذابا.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *