حوار مصطبة مع جمال محمد أحمد يعود للضوء مع صدور أعماله 

146
جمال محمد أحمد
Picture of محمد الشيخ حسين

محمد الشيخ حسين

mohed1618@gmail.com

• من الأخبار المفرحة في سماء السودان المحزنة صدور المجلد الأول من الأعمال لجمال محمد أحمد. .

ويعد صدور الأعمال الكاملة للأديب والمفكر والدبلوماسي جمال محمد أحمد (1915 ــ 1986)  واحدا من أضخم الإنجازات الثقافية التي شهدها السودان، ولعلها المرة الأولى لصدور الأعمال الكاملة لمؤلف سوداني خلال 500 سنة تبدأ من العام 1504. 

وعلى المستوي الشخصي يعيدني إلى حوار على المصطبة أجريته مع الأستاذ جمال محمد أحمد في أكتوبر 1985م. 

كتابات الأستاذ جمال محمد أحمد أعجبتني منذ الصغر ولمست لحظتها وترا عميقا في نفسي فحفظتها وكنت أعود إليها بالصدفة حينا وبالقصد أحيانا أخرى وإذ بالعطر لا يزال يفوح منها وهكذا تبقى كتابات جمال محمد  أحمد وتزداد حيوية وشبابا وإشعاعا مع الزمن. 

وهذه الجلسة على المصطبة تأتي بعد أيام من عيد ميلاده السبعين وتجاهلت الاحتفال بالسنين عمدا لأن عمر جمال محمد أحمد في تقديري تحول إلى شجرة مثمرة مورقة شامخة ثابتة ولست في حاجة إلى القول إن عظمته ككاتب تقاس بقدرته على إحداث الدهشة الفكرية وسط قرائه ومواطنيه وهو في الغالب يقوم برحلة (نبش) وبحث بين ركام الأوراق والتاريخ ليقدم شخصيات مضيئة صادقة كانت كل شخصية شاهدا على عصرها وشهيدا له في نفس الوقت. وما بين صالون استقباله وحجره مكتبه وغرفة نومه لا يوجد موضع شبر إلا وفيه كتاب دار هذا الحوار.

• الإنسان ابن بيئته الأولى، إلى أي مدى أثرت بيئة سره شرق حيث النيل والنخيل وعوالمهما التي تكسب النفس صفتي الحنية والنداوة إلى أي مدى أثرت في حياة جمال محمد أحمد الآن؟.

– سرح الأستاذ جمال بعيدا وكأني به ركب قاطرة الزمن وراح من خلف زجاج النافذة يستعيد شريط ذكرياته ثم يجيب قائلا: كلما تقدمت بي السن يعاودني الحنين إلى مراتع الصبا وأحس في العودة بأن هناك نوعا من الجنة قد فقد وسعيت إلى تعويض هذه الجنة المفقودة بالأسفار واختيار الأماكن التي قد تشابها، ومع ذلك فلم يكن باستطاعتي تعويض متعة العمل في الساقية وهذه المتعة كانت تجبرني على الاستيقاظ مع نسمات الفجر في عز  الشتاء مع انحسار النيل في مثل هذه الأيام. وبعد هذه اليقظة في عز البرد اذهب مع أهلي لنقل الماء إلى بئر الساقية وإزالة الطمي والطين منها.

ومع مطلع الشمس اركب (حمارتي) واذهب إلى الكتاب وهذه متعة افتقدتها ولم استطع تعويضها بالأسفار أو القراءات. أنا قروي ولا يمكن لمرور الزمن أو اختلاف الأماكن أن يؤثرا في طبيعتي القروية ولذا فان أثر (سرة شرق) تجده في معظم كتاباتي وإن جاء على غير وعي منى.

ومجتمع القرية الصغيرة في سرة شرق هو  الذي رعى عقلي منذ الصغر وسرت بفضل الله في ذلك المجتمع بالذهاب إلى المدرسة. وهذه الميزة جعلتني أقضي وقتا طويلا مع الكتب وكنت أجلس على (مصطبة) منزلنا في سرة شرق، وأقرأ (هـ. ج ويلز) عن تاريخ العالم الذي استهله من بابل وآشور. اعترف أنني لم أكن افهمه جيدا، لكنني ارتبطت به واستمررت في القراءة وشغفت بها واكتشفت متعتها الحسية أكثر من متعتها العقلية آنذاك. وهذه الآثار مازلت أتذكرها بشئ من الحنين.

• من الحنين نلاحظ أن إعمالك المؤلفة والمترجمة يغلب عليها الطابع الشعري حتى مثلا كتاب (الدولة الاتحادية) الذي يتحدث عن نظم سياسية واقتصادية (طريقة حياة) كتب بلغة شاعرة، أليس يعنى هذا أن في عقلك شاعرا؟

– عبر مساحة من الهدوء (المبتسم) يجيب قائلا: جميل منك أن تمس هذا الجانب لأنني في مطلع الصبا الباكر حاولت أن اكتب شعرا، ولكنى انصرفت عنه لعناء كتابة الشعر ثم أن الشعر من حولي كان في قمته وكثافته وكنا نحتفي بمختارات الشعر السوداني التي جمعها أسعد رستم.

ولم ألبث قليلا حتى قرأت لشوقي وحافظ والزهاوي وجال في ذهنا أنني لن ابلغ مبلغ هؤلاء إلا بعد عناء وتفرغ والشعر نفسه امرأة غيورة تتطلب الإخلاص وروائح عصرنا كانت تطالب أبناء جيلنا أن يكونوا متعددي الاهتمامات وأن يأخذوا من كل نبع قطرة.

ولهذه الأسباب وجدت سفينتي تبحر بعيدا عن عوالم الشعر. أما اللغة الشاعرة التي تتحدث عنها في كتبي ربما يكون مبعثها احتفائي واهتمامي بالشعر الذي التصقت به سواء كان عربيا من مختلف مراحله أو غيره من شعراء العالم المميزين.

 واعتقد أننا جميعا نعود من وقت لآخر للشعر ورجاله وأنا أعود من وقت آخر إلى شكسبير وروائعه.

هجرت دنيا الشعر لأنك أدركت انك لن تبلغ مبلغ شوقي وحافظ ولجأت إلى النثر بهذه النظرة لو لمحنا الشعر السوداني المعاصر نجد أن أمير شعرائنا كما لو وقفوا في نقطة معينة وأضرب لك مثلا بمحمد المكي إبراهيم؟

– بعد أن يطفئ سيجارته الثانية ويلقي بعقبها بقول: يبدو أن السوداني (بخيت) في المقدمات ثم ما تلبث أن تدركه المشاغل الذهنية الأخرى وتصرفه عن الانقطاع إلى الشعر والشعر كما قلت (امرأة غيورة) تتطلب العناية والحرارة، ولكن مشاعل  الحياة صرفت بعض شعرائنا عن الاهتمام بهذه الغيورة ولكن الذين انقطعوا تماما له مثل محمد المهدي مجذوب تكاد ترى جديدا في كل قصيدة كتبها وصلاح أحمد إبراهيم كذلكم، ولو أنك عرفت هذين الشخصين كمعرفتي يهما لأدركت أن غير الذي يكتبونه مستحيل حدوثه.

وصلاح أحمد إبراهيم يعيش داخل الأشياء وخارجها ويكتبها بحرارة البعض يعتقد أنها مسرفة، ولكنه شاعر. ولا ننسى عشق محمد المهدي المجذوب للغة العربية جعلت ألفاظه تصور الواقع بصورة دقيقة. 

ومع هذا فانك تجد من شغلته الحياة فينصرف إلى همومها وينقطع عن الشعر.

وربما تكون ملاحظتك عن محمد المكي إبراهيم سليمة، ولكنك لا تنسى أن محمد المكي شرع في فترة من الزمن يكتب عن الفكر السوداني، وهذا يعنى انه أضاف إلى موهبته الشعرية بعدا آخر وهذا ما جعل الشعر عنده يأخذ المقعد  الخلفي والاهتمام الجديد يأخذ المعقد الأمامي.

ولا ارغب في إطالة الحديث عن شعرائنا، ولكن من عيب الشؤم  أن نتحدث عن الشعر والشعراء ولا نذكر كجراي بكثير من العاطفة لأنه شاعر العاطفة.

• ودعنا الشعر وعوالمه لكي ندخل في صحراء الرواية السودانية والملاحظ أنه منذ أن قادنا الطيب صالح في مطلع الستينات إلى موكب الرواية العربية باستثناء جزيرة العوض، وقفت تماما الحركة الروائية السودانية ما هو تعليلك لهذه الظاهرة؟

– بعد أن يرشف من فنجان قهوته التي تشبه لون الغروب يقول الأستاذ جمال: هذه ظاهرة جديرة بالوقوف عندها وفعلا الطيب صالح كان شمسنا المشرقة، ولكن اسمح لي أن أتحدث عن أثر الحياة العامة، ويبدو لي أن تعس الحياة بعد الستينات والمنطقة العربية التي نروى عنها لم تر غير الهزائم. والهزائم صحيح تثير العاطفة وتلهب الخيال ولكنها أحيانا تثير العاطفة بالشكل الذي يصعب على كاتب الرواية أن يعبر عنه.

واتفق معك في أن القطار مازال متوقفا وتعليلي للتوقف الخيبات الكثيرة التي أصابتنا في السنوات الأخيرة ولا سيما أن بريق الستينات قد خبأ وأضحت الحياة أكثر صعوبة.

• بعض القراء يعتقدون انك تكتب كلاما غير مفهوم، بل أنه أحيانا تتعمد الغموض في كتابتك؟

– تأتي الإجابة هادئة عبر مساحة من الاطمئنان: الكلمة لها عندي قدسية وأنا امقت التكرار ومسألة الكتابة للجماهير العريضة أضرت كثيرا بطريقة الكتابة نفسها وأنا أومن تماما بنظرة أستاذنا العقاد في أن يرتفع الكاتب بمستوى القراء وليس المطلوب أن يهبط الكاتب إلى مستوى القراء ويترتب على هذا الحديث الدائر حول اضمحلال مستوى اللغة العربية.

والدور المطلوب لوقف هذا الاضمحلال هو أن يرقى الآخرون بالكتابة ويصونوا قدسية الكلمة والعبارة فكرة وإذا كانت الفكرة جديدة فهذا أمر مفيد للقارئ في البحث والاستزادة.

وموضة الكتابة السهلة للجماهير بدأت مع محمد التابعي وكان اهتمام التابعي بالمواضيع الاجتماعية والسياسية دافعا له في الكتابة السهلة، ومما بجدر ذكره أن التابعي لم يبتذل نفسه أو قلمه والمؤسف أن طريقة التابعي المبتدعة شوهها الآخرون وافتقدت حلاوة وسلاسة التابعي؟

ومن هنا اتجهت إلى الأسلوب الذي يرسخ في ذهن القارئ دون إعادة أو تكرار.

• هل المطلوب منكم (كجيل ريادة) ربط عقلانية الثلاثينات بعقلانية الثمانينات أو أن أو أن البحث عن عقلانية جديدة قد حان؟

– بعد أن أصغى جيدا للسؤال طلب إعادته ثم دنا أثناء الإعادة ليقول بعد الإصغاء: العقلانية نهج للفكر وليست ترتيبا للمواضيع بحيث يرضى هذا أو يغضب ذاك وهي إعلاء لقيمة العقل دون إهمال العاطفة والفؤاد معنى معاني العقل (إن السمع والبصر والفؤاد … الآية) والأمور العقلانية يتوصل إليها بالتفكير وعبرة الشيخ محمد عبده ـ مثلا ـ  ليست في الفتوى في لباس القبعة وإنما عبرته أنه أتى بأسلوب الأولين في التميز بين الأشياء المدركة بالعقل والمدركة بالعاطفة.

وقد حرص الشيخ محمد عبده من خلال هذا الأسلوب إلى عودة العقل العربي الإسلامي إلى نقاءه الأول في حين أستاذه الأفغاني كان يرى في الإسلام مدخلا للسياسة.

والعقلانية لا تعني إخراج العاطفة من الميدان، بل أحيانا تدرك العاطفة ما لا يدركه العقل.

ولا يوجد فرق كبير بين العقلانية والعاطفة إذا فهمنا أن العقلانية نهج في التفكير وليس تحيزا لفكرة معينة أو ابتعادا عن فكرة أخرى والقرآن الكريم فسره القرطبي والنسفي والزمخشري وابن كثير ولكل نهجه وكلهم عقلانيين.

أود القول من هذا المثل أن اختلاف النهج إثراء للتجربة شريطة أن لا يتغول نهج على الآخر بادعاء الكمال.

• أنتم الجيل الذي قاد النضال حتى نلنا الاستقلال، ولكنه بكل آسف لم يتحمل تبعات ما بعد الاستقلال وربما تنطبق على بعضكم مقولة (خرج الانجليز البيض وبقى الانجليز السود)؟

– بنظرة رصينة يتأمل دخان سيجارته الخامسة ثم يقول: هذا اتهام يحتوى على جزء من الحقيقة وليس كلها بمعنى أن الجانب الايجابي فيه كان يتعلق بالذين شغلوا المناصب التي كان يحتلها الانجليز.

وشرع هؤلاء في البناء ولم يخطر في بالهم أن الحريات التي يعملون في إطارها ستصبح مصدر تساؤل ظنا منهم أن النظام البرلماني الموروث من الانجليز سيستمر ولم يخطر في البال أنه سيغتال.

ومضينا في إتقان العمل الموكل إلينا المعلم يتقن في مدرسته المحاسب، الطبيب، المهندس، الخ ولم يخطر في بالنا جمعيا أن نحرس الحريات وترك هذه المهمة للسياسيين. وقد تأتي هنا مقولة الانجليز السود. ولم يكن بوسع الذين انكبوا في إتقان العمل، إلا أن يعملوا على مقاومة انحراق الساسة (وأنه حصل) بعضهم وقف ضد الانحراف السياسي ولكن القدرات السياسية كانت أكبر من قدرات الذين كانوا في مواقع بناء البلد.

وترتب على هذا أن اغتصبت الحريات في أقل من عامين بعد الاستقلال.

والسبب المباشر لهذا الاغتصاب انصراف المتعلمين للعمل في النطاق الوظيفي الموكول إليهم وهذا مؤشر إلى فشل الناس والديمقراطية لم يخذلها الشعب ومشهد الصفوف المتراصة أمام صندوق الانتخابات في فبراير 1958م. مازال ماثلا أمامي، ولعل سبب الفشل كما قلت في مناسبة أخرى أن السياسيين من أبناء جيلنا كانوا رجال نضال وأصحاب مواقف قادة إلى الاستقلال، ولكنهم لم ينتقلوا إلى مرحلة رجال الدولة، فضلا عن أن مراتب الجيش العليا لم تدعهم يتأهلوا لتلك المرحلة. وفي ذهني أن البعض من قادة الحركة الوطنية كان بمقدورهم الانتقال إلى مرحلة رجال الدولة لولا الانقلاب العسكري (بعضهم وليس كلهم).

• فشل القيادات السياسية كان سببا مباشرا لظهور الحكم العسكري الأول والفرد العسكري الأول بمختلف أشكاله هل يعنى هذا أننا مازلنا في مرحلة البحث عن النظام؟

– بدون تردد وبصورة قاطعة يقول الأستاذ جمال: يبدو لي أن الوقت قد أزف للاستقرار على نظام سياسي معين، لكي لا ندمن الثورات. وأخشى من إدمان الثورات الذي نراه في الدول التي من حولنا دولة مثل نيجيريا كان من المأمول أن تكون نموذجا للولايات المتحدة الأفريقية واليوم تسمع فيها عن انقلابات وانقلابات على الانقلابات والدول الكبيرة جميعها مرت بثورات، ولكنها كانت ثورة واحدة وبعدها يأتي الاتجاه نحو الثورات الفكرية كالثورة الانجليزية والفرنسية والأمريكية. وأرجو أن لا يقول أحد أن هؤلاء مختلفون عن ولا خلاف البتة. ويكفى أننا قمنا بثورتين خلال ربع قرن، ولم يكن هناك مفر من قيامهما وأرجو أن لا تتكرر الظروف التي تجبرنا على الثورة وأتمنى أن تكون ثورة أبريل أخر الثورات، حتى نشرع في البناء والتطلع للأوفق من أهل الثورات الذين تستقر أحوالهم لقرون عدة.

• جيلكم من المثقفين تحدث عن الديمقراطية كثيرا، وانشأ القصائد الحماسية فيها، ولكنه بكل أسف لم يمارسها عمليا، بل أسهب كثيرا في الشعارات ولم يحولها إلى حقائق عمل وساند كل المحسنين والمسيئين والطغاة من أهل الحكم بصورة رسمت عقدة ذنب للمثقف عند الاقتراب من السلطة ويصبح الأمر أكثر حدة على شباب المثقفين؟ 

– بصوت أقرب إلى الحكمة والوقار يقول الأستاذ جمال: هذا الاستنتاج ينبغي أن لا يكون وأن يقترب المثقف من السلطة لا كما فعل جيلنا الذي قبع في أسوار الخدمة المدنية وتفان فيها وحتى الجزء القليل من جيلنا الذي اشتغل بالسياسة لم يلتفت إلى الأسباب التي ذكرناها ونحن عشنا في زمن كان الوزير يقول فيه أن على وكيل الوزارة أن ينفذ قرارات الوزير حتى وأن كان خاطئة وبعضنا قاوم ذلك، ولكن الغالبية عملت في ظل هذه المفاهيم.

ولا أود أو أسهب في توجيه اللوم إلى السياسيين، ولكنى فقط أرسم صورة لذلك العهد الذي عشناه اكرر نقطة الاقتراب من السلطة. وينبغي على الجيل الجديد أن يقترب منها ليخدم الشعب ويتعين عليه أن لا تترسب فيه عقدة الذنب التي لم يكن له دور فيها وربما يكون قد تأثر بها من التعليم أو المنزل، ولكن مع هذا لا بد من الاقتراب حتى يتم التفاعل، ولا يمكن أن نترك الأمور بيد السياسيين إذا كنا في الخدمة المدنية ولا نجعلها كما حدث في مايو (إن الخدمة المدنية أن لم تؤمن بمبادئ التنظيم الواحد لا ينبغي لها أن تعمل) ويستحسن أن نبعد الخدمة المدنية من طرفي النقيض الابتعاد عن السياسة كلية أو أن تصبح ذيلا للحركة السياسية.

وطرفا النقيض اثبتا فشلهما ونحن كأي بلد نحتاج إلى الجانبين السياسي والعمل اليومي، ولو عدت إلى مطلع الحياة من جديد لاقتربت من السلطة لكي أشارك وأتحمل مسئولية المشاركة.

• كان طبيعة المواطن السوداني مراعاة الآخرين في سلوكه وتصرفاته، ولكن الملاحظ في السنين الأخيرة بوضوح شديد أن الإحساس بالآخرين كاد أن ينعدم فيتصرف الفرد في حياته كما لو كان وحده في هذا العالم لماذا حدث هذا وما السبب الذي يجعل المواطن السوداني يصل المنصب كبير أو يكسب مالا كثيرا ونفوذا بغير جهد!؟

– تخرج الكلمات في صوت تكسوه ملامح الحسرة حين يقول الأستاذ جمال: هذا من أشق الأشياء التي يتطلب علاجها زمنا طويلا. ولو تذكر قودفرين عيسى، علق بعد أن اندحرت دكتاتورية عيدي أمين في يوغندا بقوله: إن الشوارع من السهل بناءها والحقول من الميسور زراعتها، ولكن الصفات القومية التي تلاشت من نفوس اليوغنديين لا اعرف كيف نعيدها، وربما كان هذا من أسباب عدم استمراره وقتا طويلا في الرئاسة، لأنه كأي رجل نبيل كان مهتما بالمعنويات نفس اهتمامه بالماديات.

ونحن الآن في موقف مشابه، وحكم الفرد بطبيعته حكم أناني والأنانية تتسرب بالطبع من الكبار للصغار بمعنى الصفيف العادي في الصحيفة يتأثر بحكم الفرد المنعكس في سلوك رئيس التحرير، والناس على دين ملوكهم مقولة قديمة، ولكنها ربما تفسر بضع الخلل في صفاتنا القومية التي تعثرت الآن والعمل الشاق الذي ينتظرنا هو إعادة صفاتنا القومية التي تأثرت بأنانية حكم الفرد.

قلت إنها من أشق الأشياء متعللا بأن التعليم نفسه قد أصبح في حاجة إلى المراجعة والفاقد التربوي يتعاظم عاما بعد عام والعبرة ليست بالأعداد الهائلة من الناجحين وإنما العبرة هي ما خلفه التعليم في تلك الأعداد من صفات معينة للعمل واحترام الغير … ألخ. وهذا طريق بناء الإنسان نفسه والكتاب الاقتصاديين يتحدثون كثيرا عن الإنسان قبل التنمية.

من جانب آخر لا بد أن ينتبه قادة البلد الروحيون وهم الذين يعطون المسائل الروحية بعدا أكثر من العبادات لو انتبه هؤلاء وساعدوا السياسيين ربما قصرت المدة. من أسوأ سمات العهد المايوي أن الغنى بصور غير مشروعة قد تفشى والمطلوب إزالة مثل هذا السلوك. وبداية الطريق هي تحديث عقلنا ويجب العناية بالجانب الروحي المتعلق بالصفات القومية. وعلى الجانب السياسي أن يكف عن ترديد الشعب أمرني بكذا ويكون هذا بداية للحديث باسم الشعب وهى بداية في واقع الأمر لمصادرة حق الشعب وقيادة الشعب تلزم السياسيين بتنوير الشعب. وهي بداية في واقع الأمر لمصادرة حق الشعب وقيادة الشعب تلزم السياسيين بتنوير الشعب.

• هل مازال للمفكر صوته المرتفع في هذا العصر إلى ترتفع فيه صيحات المغنين وهتافات جماهير الكرة؟

– السيجارة السابعة تلفظ أنفاسها الأخيرة يقول الأستاذ جمال: من الممكن أن يكون للمفكر صوت مرتفع ما لم يكن أنانيا أو متشائما.

والأناني هو المفكر الذي يهرب من الواقع ولا يعيشه فهو في تقديري مفكر (لا يسوى جلده).

أما المتشائم فهو نوع من السلوك لا يمكن إصلاحه وهذا واقع، ولكنه لا يمنع المفكر من أن يعيش أحزان شعبه أفراحه.

ولا سبيل إلى اليائس، إلا إذا ملك من يرغب في اليأس أسبابه الخاصة لهذا اليأس.

• ذكرت في كتابك الدبلوماسية السودانية أن المذهبية السياسية سجون، هل يمكننا القول إن سجون المذهبية السياسية ساعدت إلى حد كبير في عدم بروز الفكرة القومي السوداني؟

– بصورة مباشرة يقول الأستاذ جمال: إلى حد بعيد ساعدت في عدم البروز، لأن المثقفين ابتعدوا عن الأحزاب. وقد كتبت مقالا في الأيام كنت فيه كثير الجزع من قضية تمثيل القوى الحديثة. وكنت أنادى بانضمام القوى الحديثة مهما كان نوعها إلى الأحزاب، لأن الأحزاب لن تتقدم بدون القوى الحديثة، بل أن واجب القوى الحديثة الوطني أن تدخل في هذه الأحزاب على أساس أن تنسجم فيها. وخلال عشر سنوات سنجد أحزابنا قد تقدمت بفضل معاونة القوى الحديثة، وأن سعدت حقيقة بخبر تخصيص 25 مقعدا للقوى الحديثة، وهي نسبة محتملة. أما لو كانت نصف المقاعد فهذه الحالة تدعو إلى الذعر والخوف على الأحزاب والقوى الحديثة. 

من جانب آخر، فأن للقوى الحديثة معاني زئبقية متعددة. فأنت حديث اليوم وبعد عشرين عما سيأتي شقيقك الأصغر ويقول لك أنا قوى حديثة فنجد أنفسنا في حلقة مفرغة ودوامة ضد التطور الطبيعي للأحزاب.

والإشارة إلى سجون المذهبية تعبر عن واقع، لأن المنتمي حزبيا قد يتنازل في بعض الأحيان عن آرائه الشخصية، لينسجم مع الحزب وأفكاره.

• حلف العسكرية والدين أحد حلقات المأزق العربي الراهن دفع ثمنه السادات دما، وليست بنا فتنة في السادات، ولكننا نتساءل عن أثر هذا الحلف على حياتنا في السودان؟

– اللهم احمنا من مثل هذا الحلف وتجربة السودان في سنوات مايو الأخيرة لم تكن تجربة سعيدة وترتب عيها أننا لم نحفظ ديننا ولم نحفظ عسكرنا (فقدنا الاثنين).

وكان ذاك الحلف نوع من الدين انسجم مع نوع من العسكرية، وأن تكرر مثل هذا الحلف في العهد الديمقراطي تصبح (ديمقراطية عجيبة)، ومثل هذا الحلف عرفته بقاع كثيرة في هذه المنطقة ولم يأت بخير في أي منها والكلام الذي يدور بيني وبين العالمين خراب، وهو قول غريب والعالمين هم صنع الله ويستحيل أن تنادي لإقامة شرع الله وبينك وبين صنعه خراب. وهذا نوع من الكلام المبتذل الذي يسند إلى الدين والدين برئ منه.

• في نفس الإطار هل يمكننا القول إنه بعد إعدام الأستاذ محمود محمد طه انتهت أو تلاشت قيمة التسامح في العمل السياسي السوداني؟

– بعد إطراقه قليلة تغلف الحسرة كلمات الأستاذ جمال حين يجيب: لا أظن ذلكم، لأن ذلكم عهد دمر في هذه الناحية التسامح.

والذين اعدموا محمود أطن أنهم غير مقتنعين، بل أتوا ببراهين عجيبة وفسروا الآيات بما يشتهون فضلا عن أنهم لم يعرفوا قيمة محمود. وصحيح أنه لم يؤثر في ملايين من البشر، ولكن المجموعة الصغيرة لم يؤثر فيها بكتاباته وحدها، لأن محمود كان نموذجا لرجل الدين الذي يؤثر في الآخرين بصفاته وسلوكه.

محمود كان بسيطا حتى في لحظة إعدامه والزهد الذي عاشه زهد رجل نذر نفسه لرسالة، ومحمود أدى هذه الرسالة بأسلوب جديد على الإسلام في هذه الأزمان الخائبة. ولذا لم يكن غريبا أن يعدم محمود.

أنا عاطفي جدا فيما يتعلق بمحمود، لأننا (أولاد دفعه) في كلية غردون، وبعدها كنت أقابله من حين لآخر. محمود كان رجلا كثير التأمل بالشكل الذي يجعلك تثق في كل كلمة يقولها.

• معظم أهل حلفا لهم غرام طبيعي بفنان عموم السودان وردى هي أنت من بينهم في هذا الغرام؟

– يقول الأستاذ جمال برنة فرح صادق: إنا من أصحاب المزاج الكلاسيكي المنفتح في الاستماع إلى الغناء ونحن من جيل الأعمدة السبعة في الأغنية السودانية أحمد المصطفى ورفاق جيله، ولكنني مع ذلك أجد نفسي انتبه إلى شرحبيل أحمد والجيلاني الواثق وعبد القادر سالم.

• البعض يفضل  الزواج التقليدي للكاتب وآخرون ينادون بغيره إلى أي الرأيين تميل، وهى تعتقد أن نظرة توفيق الحكيم للزواج سليمة؟

– بملامح تنم عن الرضا التام يقول الأستاذ جمال: أنا تزوجت بطريقة تقليدية جدا (بنت عمي)، ولا أعرف حتى الآن كيف عبرنا الطريق من سرة شرق إلى أكسفورد والعكس.

ومن خلال تجربتا أن الزواج التقليدي ليس سيئا بالحد الذي يقال ولا غيره جيدا بالصورة التي توصف وفي الحالتين تتوقف السعادة أو عدمها على الناس أنفسهم. ودعك من العبث الذي يقوله توفيق الحكيم عن عداوته للمرأة واشتهائه لطبق البطاطس بيديها، فالحكيم يريد أن يروج لنفسه فقط من خلال عبارات تثير الضجة لبعض الوقت وهي صفات في تقديري لا تنطبق على الشخص المولع بالقراءة والاطلاع.

• في ختام الحوار سألت الأستاذ جمال إن كان هناك جانب يود أن اسأله عنه؟

– أجاب ضاحكا : أظنك فضولي كفاية.

 

شارك الحوار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *