

بقلم: د. عبدالله علي إبراهيم
كاتب ومفكر سوداني
ملخص
لا يخفى أن هذه الخطط والعقائد استدبرت مطلب «حصرية السلاح» الذي نادت به الثورة ويدمج كل قوة مسلحة غير الجيش في القوات المسلحة. وكان منتظراً بعد انتهاكات «الدعم السريع» حين وطئت أرضاً فأفرغتها من أهلها أن يتأكد لقوى مثل «صمود» صحة وعيها الباكر بأن «ما في ميليشيات بتحكم دولة».
لا أعرف ما دنا أخيراً للمسألة السودانية في خضم بنائها الوعر للأمة الدولة دنو تطورات أخيرة في كل من لبنان والعراق. وهي تطورات جرى الاصطلاح عليها بـ»حصرية السلاح» في لبنان. وهي أن يقتصر تملك السلاح على الدولة. وكانت هذه الحصرية من وراء حرب السودان. فجاء بها الاتفاق الإطاري في يناير (كانون الثاني) 2023 وهو إصلاح عسكري أمني تقدمت به قوى الحرية والتغيير (قحت) دعت فيه إلى دمج قوات «الدعم السريع» والحركات المسلحة قاطبة في القوات المسلحة بما هو حصر للسلاح بيد الدولة. وهو ما لم يتفق للفريق محمد حمدان دقلو لا خلال فترة الحكم الانتقالي التي كان المبدأ حداء الشارع: ما في ميليشيات بتحكم دولة. العسكر للثكنات والجنجويد (الدعم السريع) ينحل وحسب، بل خلال فترة دولة الإنقاذ نفسها. ففاوض الرئيس البشير، رئيس الجمهورية يومها، بقوة من فوق عقيدته باستقلال قواته عن غيرها ليخرج بقانون الدعم لعام 2017 الذي وطنه جيشاً ثانياً كما عرض لذلك الدكتور سلمان محمد سلمان في كتابه عنه. وبدا من الحرب أن حميدتي لم يستعد لأمر مثل استعداده ألا «يؤكل لحماً ويرمى عظماً» بالاتفاق الإطاري كما قال في لقاء خلال حكم الإنقاذ جمعه مع الإعلامي الطاهر أحمد التوم على «س24».
جاء جوزيف عون إلى رئاسة جمهورية لبنان في يناير 2025 فوضع مطالب واضحة بتسليم سلاح جميع القوى المسلحة، بما في ذلك «حزب الله»، إلى الجيش اللبناني، معتبراً ذلك شرطاً أساساً لاستعادة سيادة الدولة وضمان استقرارها، بل سموا الحكومة برئاسة نواف سلام بـ»عهد حصر السلاح» متزامنة مع الضغوط الأميركية لوضع جدول زمني محدد لسحب السلاح، مع ربط ذلك بالدعم المالي الدولي وإعادة الإعمار.
ليس مبدأ «حصرية السلاح» في لبنان وليد ظرف الحرب مع إسرائيل التي رجحت فيها الحرب الكفة لغيره. فمبدأ حصر السلاح بيد الدولة أحد ركائز بناء الدولة واستعادة سيادتها منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1977-1990) وإقرار اتفاق الطائف به عام 1989. وشمل الحصر معظم القوى المسلحة إلا سلاح «حزب الله» المعدود كـ»سلاح مقاومة» مشروع لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وضربت الدولة في لبنان لضعفها صفحاً عن حصرية السلاح في ما اتصل بـ»حزب الله» إلا أن المبدأ كان يثور في الدولة والمجتمع حين يوجه الحزب سلاحه لغير ما أجيز له في مثل المواجهة بينه وبين الدولة عام 2008 التي اجتاح فيها بيروت لأن الحكومة قررت وقف شبكة اتصالات الحزب السلكية.
ومكن ذلك الوضع لعقيدة «الجيش والشعب والمقاومة» التي اعترفت لـ»حزب الله» بالسابقة في المقاومة واللاحقة. واستعلت لبنان على المطلب بنزع سلاح «حزب الله» من الأمم المتحدة بأنه شأن داخلي ليس لغير اللبنانيين رأي فيه. وهي العقيدة التي يدرأ بها الحزب حالياً قرار الدولة بنزع سلاحه، بل هي العقيدة التي عارضت بها إيران أخيراً القرار نفسه فأثارت ثائرة لبنان.
ترافقت في العراق واقعتان ماستان بـ»حصرية السلاح» هما مشروع قرار قانون «الحشد الشعبي» ومهاجمة كتائب لـ»حزب الله»، الذي هو قوام اللواءين 45 و46 من «الحشد»، دائرة حكومية للزراعة في آخر يوليو (تموز). فاستنكر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الحادثة على المرفق الحكومي وقال إن بلاده لن تتهاون في حصر السلاح بيد الدولة وفرض سلطة القانون ومكافحة الفساد. وكان من وراء هجوم المسلحين مدير الدائرة المقال نظراً إلى تورطه في عمليات فساد أدت إلى سلب أراض زراعية من أصحابها الشرعيين. واستقوى بالمسلحين لاستعادة سلطاته. وخلص تحقيق أجرته الحكومة إلى وجود خلل في ملف القيادة والسيطرة في «الحشد الشعبي»، ووجود تشكيلات لا تتقيد بالضوابط والتحركات العسكرية. فأعفت الحكومة قادة اللواءين من منصبيهما وقررت التحقيق مع قائد «الحشد الشعبي» في المنطقة لتقصيره في مهمات القيادة والسيطرة.
من جهة أخرى، توقف البرلمان العراقي في أول أغسطس (آب) دون القراءة الثالثة لقانون «الحشد الشعبي» قبيل عرضه للتصويت عليه. وكان القانون، الذي يمنح «الحشد» صلاحيات واسعة وموارد كبيرة واستقلالية نسبية في القرار عن المؤسّسات الأمنية الأخرى، أثار مخاوف الولايات المتحدة من أن يؤدي إقراره إلى تمكين مجموعات مسلحة تستظل بـ»الحشد» وموالية لإيران. وهو نفس ما اعترض عليه عرفان شهيد، سفير بريطانيا، قائلاً بعدم الحاجة إلى «الحشد» بعد انتهاء المعارك مع تنظيم الدولة وأن فيه فصائل مهددة لأمن العراق ومصالحه.
أعطى القانون قوى «الحشد الشعبي» صلاحيات موازية للجيش فصارت به «جزءاً من القوات المسلحة وترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة، ولها حق التسليح لحماية النظام الديمقراطي والدستوري» شريطة ألا ينتمي أعضاؤها إلى أي حزب أو ممارسة النشاط السياسي. وقوة «الحشد» 200 ألف منتسب ينتمون إلى 10 فصائل منها ما يزال يعتزل دولة العراق ويأتمر بإيران في إطار «محور المقاومة». وللحشد حسابات مستقلة تخضع لمراجعة ديوان الرقابة المالية الاتحادية، وله شركة «المهندس للمقاولات» لتنفيذ مشاريع إنشائية وهندسية في السوق.
والقول باعتزال «الحشد» السياسة صعب التحقق لأنه تكون في 2014 بناء على دعوة للمرجعية الشيعية في العراق لحمل السلاح في مواجهة تنظيم «داعش» السني. وله هيئة عليها رئيس أعلى بدرجة وزير وفقاً للقانون مسؤول عن تنفيذ أعماله ومهماته. وهو ما يعترض عليه الأميركيون، الذين يخشون أن يخرج عليهم حرس ثوري في معيار نظيره في إيران، ويضغطون ليكون «الحشد» تحت قيادة الدولة مباشرة.
ونوه المراقبون بجدية الشياع وصرامته تجاه انفلات «الحشد الشعبي» بما لم يكن العهد قبلاً. فقد وقعت حادثتان في عهد رئيس الوزراء السابق له أطلقت فيها جماعة من «الحشد» صواريخ على المنطقة الخضراء (يونيو «حزيران» 2020) وأخرى اغتالت فيه جماعة أخرى ناشطين مدنيين في كربلاء (مايو «أيار» 2021) ولم تحرك الدولة ساكناً بعد تحرير الفصائل لمن اعتقلتهم رهن التحقيق.
ومن وراء الضيق بالسلاح خارج الدولة وازع محلي أشد خطراً من مخاوف الغرب. فصار «الحشد» أحياناً كثيرة شرطة خاصة لمصالح شيعية نافذة لإخلاء ما يعرف بـ»حزام بغداد» الخصيب من أهله العرب السنة. وهو ما وصفه الكاتب العراقي أحمد سعداوي بإعادة تشكيل ديمغرافية المدينة منذ 2004. فهجّرت ميليشيات «الحشد الشعبي» الألوف من أهله ما زالت الخيم مأواهم. وبدا أن حادثة الهجوم على دائرة الزراعة مما وقع في إطار هذا التغيير الديمغرافي.
وإجراءات هذا التغيير الديمغرافي هي تهجير أهالي حزام العاصمة بزرع الخلايا البشرية ومصادرة الأراضي الزراعية. وقال الكاتب إياد الديلمي إن فصائل «الحشد» تحولت أخيراً عن نيل غرضها بالإرهاب، إذ استبدلت به الاستثمار الذي تصادر من خلاله آلاف الأراضي الزراعية من أهلها لبناء مجمّعات سكنية أو تجارية أو صناعية، غالبيتها لمصلحة الميليشيات المتنفذة. فتبدأ الأخيرة بمفاوضات مع أهالي تلك المناطق لشراء أراضيهم، وعند الرفض تُساومهم بالسلاح، إما بالدخول في شراكة أو بتلفيق تهم مثل الانتماء إلى حزب البعث أو الإرهاب، مما دفع كثيراً إلى قبول عروض الميليشيات. وترتب على هذا إعادة رسم الخريطة السكانية والانتخابية. فمناطق «حزام بغداد» أصبحت فارغة من سكانها الأصليين أو مليئة بسكّان جدد موالين للميليشيات. وانعكس هذا التغيير في الانتخابات، إذ تراجعت نسبة التمثيل السنّي في بغداد إلى مستويات غير مسبوقة.
كانت «حصرية السلاح» في لب مطلب ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 وخرجت الحرب بعيد إصلاح أمني في يناير 2023 أراد جمع شمل القوى المسلحة من غير الجيش في القوات المسلحة كما تقدم.
لكن لم يعد المطلب بعد الحرب بذات الوضوح عند القوى التي كانت من وراء الثورة، بل بالوسع القول إنه لم يعد وارداً. وغطت عليه خطط وعقائد طرأت لهذه القوى نجملها في الآتي:
تدعو في خطتها لوقف الحرب إلى قيام حكومة مدنية تستبعد الفئتين اللتين احتربتا: القوات المسلحة و»الدعم السريع»، وهنا إغضاء مرموق عن مسألة حصرية السلاح. ولا يعرف مستقبل مثل هذه الحكومة والسلاح فوق الرؤوس من كل فج.
إذا كان من ذكر لحصرية السلاح على يد أقلام فصيحة منهم فهو، وبطريق غير مباشر، في الدعوة إلى حل القوات المسلحة لأنها في قولهم ما وجهت سلاحها إلا لصدر شعبها وشغبت في السياسة بالانقلابات والنظم المستبدة وكلفت حال البلد دماً مراغاً.
وتتصل بهذا التفكيك للجيش خطة كانت اتفقت لـ»صمود» و»الدعم السريع» في إعلان أديس أبابا في يناير 2024 قضت بحل كل من الجيش و»الدعم السريع» والحركات المسلحة الأخرى في جيش قومي مهني تتمثل فيه الأطياف السودانية جمعاء. مما هو بالطبع رأي سلبي في تكوين القوات المسلحة في يومنا.
ولا يخفى أن هذه الخطط والعقائد استدبرت مطلب «حصرية السلاح» الذي نادت به الثورة ويدمج كل قوة مسلحة غير الجيش في القوات المسلحة. وكان منتظراً بعد انتهاكات «الدعم السريع» حين وطئت أرضاً فأفرغتها من أهلها أن يتأكد لقوى مثل «صمود» صحة وعيها الباكر بأن «ما في ميليشيات بتحكم دولة». وما جاء ذكر هذه الانتهاكات على لسان حتى قال قائلهم إن ما يشقى به الناس من «الدعم السريع» هو أيضاً من شرور الجيش فينا لأنه، في عبارة صارت صيغة مشهورة، إن الدعم خرج من رحم الجيش عملاً بمثلنا القائل «من ولد المحن يلولي (يلاعب) صغارهن».
بدا أن «حصرية السلاح» هي في أول جدول أعمال بناء الأمة الدولة عندنا وعند غيرنا بعد طول تشرد مع السلاح وهرجه في غير ما أريد له في مثل هذه الدولة. ولا نحتاج في السودان غير العودة إلى وعينا الذي سبق بهذه الحصرية في ثورة ديسمبر التي هي واحدة من يقظات الأمة العظمي للم شعثها في أمة دولة آمنة مطمئنة.
-اندبندنت عربية
شارك المقال