م. معتصم تاج السر
كاتب صحفي
• لم تكن الخرطوم يوماً مدينةً ساكنة الملامح أو مغلقة الأبواب، فهي العاصمة التي احتضنت على مرّ التاريخ أبناء السودان من كل صوبٍ وحدب، مدينةُ التعدد والتنوّع والتعايش.
غير أنّ التحولات التي فرضتها الحروب المتعاقبة على البلاد منذ عقودٍ طويلة، قد غيّرت من طبيعتها العمرانية والاجتماعية، فغدت العاصمة اليوم تواجه تحدّياً عميقاً، يعرفه المختصون والمواطنون معاً باسم «ترييف العاصمة».
هذا الترييف لا يعني قدوم أبناء الريف إلى المدينة فحسب، بل يعني في مدلوله الأوسع تحوّل النسيج العمراني والاجتماعي للخرطوم على نحوٍ غير متوازنٍ ولا مخطّط، بعد أن أصبحت أطرافها ملاذاً للنازحين من مناطق الحرب والاقتتال، بحثاً عن الأمن ولقمة العيش.
ومع غياب الدولة عن التخطيط الحضري وضعف الرقابة، نمت الأحياء العشوائية على أطراف العاصمة كغابةٍ من الصفيح والطين، تحاصر المدينة يوماً بعد يوم.
ليس في هذا القول عنصريةٌ أو جهوية حاشا لله، بل قراءة واقعية لواحدة من أخطر المهددات الأمنية والاجتماعية التي تواجه الخرطوم.
فالنازحون ضحايا حربٍ، لا جُناة، غير أن غياب الخدمات الأساسية، من كهرباء ومياه وتعليم وصحة، وغياب مؤسسات الأمن والرقابة، جعل من تلك المناطق بيئةً خصبةً للانفلات الأمني والجريمة، ومأوى للعصابات والممارسات الخارجة عن القانون.
لقد حاولت الحكومات المتعاقبة على السودان تقنين السكن العشوائي عبر برامج للتخطيط وإعادة التوطين، لكنّ تلك الجهود كانت دوماً محدودة الأثر، لأنّها لم تتجاوز البعد المكاني إلى البعد الإنساني والاجتماعي والاقتصادي.
فالمشكلة ليست في الطوب والطين، بل في الإنسان الذي يحتاج إلى حياةٍ كريمة، ومصدر رزقٍ مستدام، وخدماتٍ تحفظ كرامته.
ومع اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل عام 2023م، تضاعفت المأساة.
إذ تحوّلت تلك المناطق العشوائية إلى بؤرٍ خطيرةٍ للجريمة، ومخازن للمسروقات، وأوكارٍ للعصابات التي استغلت غياب الدولة لتعبث بأمن المواطنين وممتلكاتهم.
وبعد تحرير الخرطوم، مطلع 2025م بدأت حكومة الولاية في إزالة التعديات على الأراضي الحكومية والمناطق غير المخططة، في خطوةٍ ضرورية وإن كانت مؤلمة.
غير أنّ الإزالة وحدها ليست حلاً دائماً.
فلا بدّ من معالجاتٍ متكاملةٍ تراعي البعد الإنساني والاقتصادي والاجتماعي، عبر برامج لإعادة التوطين في مناطقٍ مخططةٍ ومهيأة بالخدمات، ومشروعاتٍ اقتصادية صغيرة تُدر الدخل، وتعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة.
إنّ الخرطوم لا يمكن أن تُبنى بالإزالات فقط، بل بالعقل والتخطيط والرؤية الشاملة، التي تجعل من كل نازحٍ مواطناً منتجاً، ومن كل بيتٍ عشوائي بيتاً صالحاً للحياة.
فالعاصمة ليست مجرد جغرافيا، إنّها وجهُ الوطن، وصورتُه أمام العالم، ومركزُ قراره السياسي والاقتصادي.
حماية الخرطوم من الترييف المنفلت ليست ترفاً، بل ضرورة وطنية لحماية أمن السودان واستقراره.
نتمنى أن نرى الخرطوم يوماً مدينةً خضراء، متوازنة، تحتضن أبناءها بعدلٍ وتنظيمٍ ومحبةٍ، مدينةً تُعيد للمدن هيبتها وللريف كرامته، وللسودان كله سلامه المنشود.
محبتي والسلام،،،،
شارك المقال
