تربية القسوة.. نكسر الحلقة أو نعيد الندوب

121
محمد عبدالقادر

محمد عبدالقادر محمد أحمد

كاتب صحفي

• أكتب هذه السطور وأنا أحمل في قلبي عظيم التقدير لجيل آبائنا وأمهاتنا، ذلك الجيل الذي حمل أثقالًا ما كان ينبغي لبشر أن يحملها، وصبر على قسوة الحياة، وضحّى براحة نفسه وأحلامه ليُمهّد لنا دربًا أقل وعورة. لم يختاروا القسوة ولا الاستبداد، لكنهم واجهوها بصدورٍ عارية وقلوب مثقلة بالأمل، وربّوا أبناءهم بما تيسّر لهم من أدوات وما ورثوه من قيم. وما نحن اليوم إلا ثمار جهدهم، وامتداد لتضحياتهم. وما أكتبه هنا ليس محاكمة لذلك الجيل العظيم، بل وقفة تأمل لتلك الحلقة التي كبّلتنا جميعًا بزمان مضى، حتى نقطعها بالحبّ والرحمة لمن يأتي بعدنا.

القسوة ليست دائمًا قرارًا شَيـطانيًا يقصده الأب أو الأم، كما أن الطيبة والحنان لا يكونان في كثير من الأحيان قرارًا بطوليًا يتخذه المربون. فالفرد في نهاية المطاف ابن ظروفه وثمرة زمنه، وأسير ما ورثه من قيم وصدمات وخبرات تصبِغ طريقة تفكيره وأسلوبه في العيش والتربية. ولأننا شعب عاش عقودًا من الفقر السياسي والاقتصادي، وواجه أقدارًا قاسية من الاستعمار والفقر والحروب، والفوضى، والاستبداد، فإن تلك السنوات الطويلة تركت بصماتها العميقة على الروح السودانية، فخرج جيل متوارث من الخشونة، والتحمّل الصامت، وجلد المشاعر، حتى أصبحت القسوة أداة للتربية، والتكشيرة «هيبة»، والصمت مهارة في تربية الأولاد.

غير أنّ هذه القسوة لم تنبت فجأة، ولم تأتِ من فراغ، فالتربية عند آبائنا لم تكن سوى انعكاس صادق لمدارس الزمن الذي عاشوه، زمن القرية التي لم تعرف سوى العصا أداةً للتأديب، وزمن الاستعمار الذي أراد أن يربّي فينا الخضوع، وزمن الحكومات الشمولية التي جعلت الطاعة قيمةً عليا، وأفرغت الرحمة من معناها. وهكذا كانت البيوت تكرر ما تراه، والطفل يتشرّب منذ نعومة أظفاره أن الحب رفاهية، وأن الصرامة قدرٌ محتوم، وأن التحمل فضيلة أسبق من الحرية، والخوف لغةٌ أسرع من الحوار. وقد تجلّت هذه التربية في مواقف صغيرة بقيت عالقة بذاكرتي، أذكر منها موقفًا مع والدي (متّعه الله بالصحة والعافية)، كان يكلمني ذات مرة وأنا في موضع خطأ، وهو يذكرني بضرورة احترام الكبير، ثم قال بهدوء لا يخلو من الحزم والصرامة « شوف يا ولدي، نحن نشأنا في البلد، بنجيب صواني الأكل للكبار في البرش، ونقيف جنبهم لحدي ما يخلصوا أكل، وبعدها نكب ليهم الموية بالإبريق يغسلوا يدينهم، حتى بعد داك نقعد ناكل في نفس الصواني». 

هذه الصورة البسيطة تختزن فلسفة كاملة في التربية، فهي لم تكن مجرد عادة أو طقس يومي، بل كانت درسًا عمليًا في معنى التقدير، وترسيخًا غير مكتوب لمكانة الكبير، إذ يُنتظر حتى يأكل، ثم يُخدم بالماء ليغسل يديه. كل ذلك كان يرسّخ في النفوس أن مكانة الكبير من مكانة الجماعة نفسها. لم تكن المسألة جوعًا أو شبعًا، بل بناءً صامتًا للهرم الاجتماعي، وغرسًا لفضيلة الاحترام في وجدان الأطفال قبل عقولهم. تلك التربية (على قسوتها أحيانًا) حملت في جوهرها درسًا فلسفيًا عميقًا، وهو أن الفرد لا يُقاس بما يأخذ لنفسه، بل بما يقدّمه للآخر، وأن التواضع أمام من سبقك في العمر والتجربة هو احترام للحياة ذاتها، لا لشخص بعينه فقط.

غير أنّ التحولات الاجتماعية لم تتوقف، جيل التسعينات وأنا منهم، الذي كثيرًا ما يُنظر إليه بأنه جيل «المنتصف»، يعرف تمامًا كيف اختُبرت طفولته بين شوكةِ جلد المعلمين وخوف السلطة، ومجتمع يعبد الصبر، ويظن التعبير عن الحب ضعفًا لا يليق بالرجال ولا بالنساء. ثم جاء جيل الألفينات، فحمل معه قاموسًا جديدًا من الكلمات التي لم يعرفها آباؤنا من قبل:Trauma، “Toxic”، “Gaslighting”، “Emotional abuse”، وغيرها من المصطلحات التي خرجت من قاعات علم النفس ومستشفيات العلاج السلوكي، إلى مقاطع «التيك توك» و»إنستغرام»، فأحدثت صدمة مزدوجة، صدمة للجيل السابق الذي لم يفهم هذه الكلمات، وصدمة لجيلنا وهو يكتشف (بخجل وغضب) أنه يحمل جراحًا نفسية لم يسمّها أحد من قبل.

بعد أن دخلت هذه المصطلحات الجديدة قاموس الأجيال اللاحقة، لم تظلّ حبيسة الكتب أو قاعات العلاج النفسي، بل خرجت إلى فضاء الإعلام ومنصّات التواصل، والأخطر من ذلك أن بعض صُنّاع المحتوى بدأوا يوجهون الاتهام مباشرة إلى آبائهم وأمهاتهم، ويتهمونهم بأنهم سبب عقدهم النفسية وحرمانهم العاطفي، حتى رأينا من يلعن والده على الملأ، أو يعلن قطيعته لأسرته، وكأنّنا نحاكم أجيالًا كاملة، لا باعتبارها ضحية الزمن، وإنما باعتبارها (الجلاد) المتعمّد. أنا هنا لا أنكر أن بعض البيوت كانت ساحات للعنف والقمع والحرمان، وأن هناك آباء وأمهات ارتكبوا أخطاء لا تُغتفر، ولكن.. من الذي ربّاهم؟ ومن الذي صاغ وعيهم؟ ومن الذي حرَمهم من مهارات التعبير والحب؟ أليست تلك (الحلقة المغلقة)، التي يبدأ فيها الألم منذ الزمن البعيد، ثم يتناسل في الأجيال كأنه ميراث جيني لا فكاك منه؟

إن ما أود قوله بكل صراحة ووضوح، أننا لسنا مطالبين بمحاكمة أجيال آبائنا وأمهاتنا، بقدر ما نحن مطالبون بقطع الحلقة التي كبّلتنا جميعًا. فلا جدوى أن نلقي المسؤولية على من عاشوا ظروفًا أقسى مما نعيش، وفعلوا ما استطاعوا، وهم أنفسهم ما زالوا يحملون ندوب التربية القاسية دون أن يدركوا ذلك، ولم يكن بين أيديهم رفاهية فهم الأحاسيس وتشخيص الجراح وتحليل الأسباب كما نملك نحن اليوم، بل واجهوا الحياة بما تيسّر لهم من وعي وأدوات. ومن هنا فإن المسؤولية الحقيقية تقع علينا نحن، أن نتوقف عن توريث الصدمات، وأن نتعلم شجاعة التعبير، ونعيد الاعتبار للحب والرحمة في التربية، وأن نكسر هذه (الحلقة المغلقة)، فنربي أبناءنا وإخواننا وأخواتنا على الحنان بدل الجلد، وعلى الحوار بدل الصراخ، وعلى الصدق والشفافية بدل الخوف والوعيد.

ربما يكون السودان اليوم بلدًا ينهشه الخراب، وتنهار فيه الدولة، وينتفخ فيه القهر، لكن الرهان الحقيقي ليس على الوضع الحالي، لأنه وضع هالك، يحتاج إلى سنوات طويلة لكي يُصلح الله شأنه. ولكن الرهان، على أن ننجب جيلًا جديدًا لا يشبهنا في قسوتنا، ولا يحتفظ بصمتنا، ولا يكرر حرماننا العاطفي وتاريخنا السياسي.

جيل نحرّره من أثقال التاريخ، ليحرّر الوطن من أثقاله حين يكبر.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *