انتحار الشعراء.. مشاهد خانقة تتجول بين فصول شفافة (1-2)

98
shaibon
Picture of تحقيق: نبوية سرالختم

تحقيق: نبوية سرالختم

• حين يعجز العالم عن إحتضان ارواح شفافة مثل أرواح الشعراء وتخفيف آلامهم الناتجة عن شعورهم بقبح الواقع وظلمه تتكشف نصوصهم عن تجارب مأساوية تحمل إشارات حارقة نحو السبيل إلى الخلاص

فالكتابة في لحظة ما لا تصلح لتكون مسكن لآلام الروح والعذابات والجراح أحياناً يكون الإنسحاب من هذا الواقع المظلم ليس ضعفاً بل إختياراً شجاعا من هنا يكون (الانتحارً) ليس نزوة عابرة او لحظة يأس طارئة بل حصيلة وعي بواقع مرير يشوبه انين طويل ومشاهد خانقة تتجول بين فصول دواوينهم الشفافة لتجعل من الانتحار خلاص مشروع يحمل شهادة دامغة على مأساة الانسان في عالم يطرد أنبل قاطنيه.

هناك نماذج مؤلمة في تأريخ الشعر والأدب السوداني كل نموذج منها كان يحفر في كهف مظلم يبحث داخله عن كوة ينفذ منها إلى الخلاص فالكلمات عندهم لم تكن ترفاً أدبياً بل وسيلة دفاع اخيرة امام زحف العدم حمل شعرهم رموزأ مشتركة مثل : الريح – الظل – الغربة – الجدار – الليل – الرحيل وكانت في حصيلتها تعبر عن مأساة عميقة وعنف موجه نحو النفس كخلاصة للصراع مع المجتمع والسلطة القائمة أو كتعبير عن حالة العزلة ومواجهة الواقع المرير.

كانت أشد النصوص مأساوية تلك التي كتبها الراحل عبد الرحيم أبو ذكرى يقول عنها الراحل الناقد عبد القدوس الختم : « بإستقرائنا وبحثنا لشعر ابي ذكرى نكشف عن عالم حافل باليأس والإحباط والغموض ,عالم من المجرات والكواكب المتهاوية في الفضاء وأحياناً تشم في لغته رائحة القبور والجبانات المهجورة : ذاك في الآفاق .. هذه المشتبهات والأماكن التي مللناها.. والآماسي التي بصقناها تعال نفتح القبر الآن» وبالرجوع إلى خلفيات أبوذكري فيمكن القول انه كان مثقف موسوعي مشبع بكتابات المدارس الماركسية الوجودية عرف بحساسيته المفرطة وعزلته انتحر ربما كما توثق له بعض الكتابات المقربة بعد ان تحصل على الدكتوراة في فقة اللغة بموسكو وترك ديوان شعر يحمل عنوان «الرحيل في الليل» والذي كان يكشف الغطاء عن روح ممزقة بين احلام التغيير وخيبة الواقع فضلاً عن مشاعر  الوحدة والاغتراب « أغني مع الريح حين تعوي واغني مع البحر حين ينوح واغني لأنني وحيد».

لم يكن أبوذكرى وحيداً في آلامه واغترابه فقد شاركه هذا الشعور آخرين منهم محمد عبد الرحمن شيبون ولكن لم يؤثر شيبون الإنسحاب والعزلة كما فعل أبوذكرى ولكن كان له صراع نفسي وإجتماعي مشهود يعد الأكثر عنفاً بين رصفائه حيث تمرد على القيود الاجتماعية والسياسية بسبب تأثره بالماركسية فضلاً عن كونه شاباً موهوباً حيث إصطدمت طموحاته مع الواقع السياسي والاجتماعي فأصبح يعاني من آلام نفسية عميقة قادت إلى واقعة إنتحاره والتي تعبر عن موقفاً فلسفياً يعلن التمرد على مجتمع مقيد وخانق.

فبعض ابيات قصائده تنزع نحو التحرر والموت فتقول : « أصرخ في وجه القيود ألعن أيامي وألعن أيديكم سأمضي دون قيد دون صوت» وهكذا انهى رحلته وهو في ريعان شبابه

إختلف النقاد في تفسير النهاية التي ختمت حياة كل من شيبون وأبو ذكرى فعن شيبون نجد بعض الكتابات «المنشورة بالشبكة العنكبوتية»حملت الحزب الشيوعي وزر موته ومن تلك كتابات للدكتورعبد الله على إبراهيم وكمثال لها تحليله عبارة للراحل تقول : «وأدار لي آخرون الأكتاف الباردة التي تبينت أنها لم تكن ساخنة في يوم من الأيام « يقول الكاتب: «انها كانت تعبير عن شقائه بجفاء الشيوعيين له بعد أن ترك التفرغ للعمل الحزبي أو ربما الحزب ذاته في ستينات القرن الماضي».

أماعن أبو ذكرى فيقول الراحل عبد القدوس الخاتم : « كان مرهفاً وفائق الحساسية ودائم الوسوسة وكان إنطباعه الأول عن الآخرين هو إنطباعه الأخير لايرجع عنه قط ولو كان مخطئاً وقد نشأ في كنف أب صارم وقاسي يعمل في سلك الشرطة ويعاقب اطفاله أشد العقاب لأتفه الأسباب وظل أبوذكرى يحمل جراحات الطفولة التي لم تندمل أبداً حتى غادرنا من النافذة « ويواصل في الحديث عن تلك اللحظات واسبابها بقوله : «ماذا حدث بالتحديد في ذلك اليوم المشئوم من أيام الثمانينات الذي شهد وفاة الشاعر أبوذكرى إثر سقوطه من إحدى المباني الشاهقة بموسكو عاصمة الإتحاد السوفيتي آنذاك هل إختل توازنه وهو يطل من النافذة العالية فزلت قدمه من الحافة العالية؟ أم قذف بنفسه في لحظة خاطفة يائسة إلى الفراغ ؟ .. يواصل : النظرية الثانية يرجحها بعض أصدقائه ورفضها البعض فمن الذين يرجحونها الأستاذ يحي محمد احمد في كتابه «أبوذكرى حمل زهور حياته ورحل» والذي أنفق سنوات يجمع شتاته ويؤلف بين اجزائه لأن فعل الإنتحار يتمخض عنه مترتبات دينية وأخلاقية باهظة ويصعب فيها الرجم بالغيب»

وبالبحث والتنقيب في إرث كل من الراحلين ابو ذكرى وشيبون نجد ان هذا الارث يسيطر عليه شعور بأن لاشئ له معنى او قيمة حقيقة اوبمعنى آخر الاحساس بالفراغ اي كل ما نحياه من حب وألم وفرح زائل ولا أثر له ليس التعبير عن العدم في شعر الراحلين مجرد تعبير عن حالة حزن واكتئاب وهروب بل هو وعي داخلي حقيقي بأن العالم كله ليس الا مجرد عبث لايمكن ادراك الغاية منه.

ففي لحظة العدم لديهما ينطفئ وهج الاشياء وتصبح الكلمات مجرد صدى في فضاء أبكم وهو شعور بالمشي على ارض بلا جاذبية وطرق على ابواب صمة ومع أن الراحلان يتماثلان في موقفهما من العدم لكن كما أشرنا سابقاً لكل منهما طريقته الخاصة في النيل منه فأبوذكرى يظهره كحقيقة كبرى وإدراك مرير لا يمكن ان يقاوم بينما شيبون يظهره كخصم يجب ان يقاوم بالرفض حتى الرمق الأخير فيقول أبو ذكرى في ديوانه «الرحيل في الليل الطويل» « مابين خطوتي وخطوتي ينمو الفراغ أمد يدي فلا ألقاك .. أناديك فلا يرد الا الصدى البعيد».

أما شيبون فصرخته تأتي مختلفة تحمل شئ من الثورة « أحمل الليل فوق ظهري وأصعد له دروب الصراخ أصرخ كي لأ اموت صامتاً واموت كي لا أصرخ مرتين» وهكذا كان أبو ذكرى يتبنى الحزن العميق كطريق للعدم بينما شيبون يختار المواجهة العارية وكلاهما بطريقته يرسم حدود الهاوية التي تتسع تحت أقدام احلامهما فأبو ذكرى يلامس العدم بأطراف الكلمات ويغوص فيه همسًا كأنما يسكب حزنه في مجرى بارد من التأمل حيث يتجلى الفراغ كحقيقة صامتة تبتلع المعنى ببطء لغته تنبض بانكسار داخلي لا يثور بل ينساب كجرح قديم تعلم الصبر « أنا والريح صديقان تذرؤنا للسفر الطويل لا وطن يؤوينا ولا مدينة تسكننا « وأيضاً :» أحمل أوجاعي على ظهري كما يحمل الحطاب حزمة الحطب أقطع الليل صامتاً ارتمي في حضن صباح قذر».

أما شيبون فيقابل العدم بصخب النفس الرافضة إذ يصوغ تجربته بلغة تمردية دامعة تشتبك مع الفراغ كما يشتبك الغريق مع موجة عاتية في قصائده يتحول العدم إلى نداء احتجاجي صاخب فيه من العنف بقدر ما فيه من انكسار فيقول :» صراخ الناس كالخناجر وابتسامتهم كالجراح والبيوت قلاع للذل لا أرصقتي تعرف قدمي ولا سمائي تعرف عيوني» وأيضاً : « يا وطناً ضاق بي ويا قلباً حطمته الأيام دعني أنسلخ من ظلي وامضي كريح الشتاء.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *