الوعي الشعبي ما بعد الحرب 

21
دكتور طارق عشيري

د. طارق عشيري

أستاذ العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية في الجامعات السودانية

• الوعي الشعبي ما بعد الحرب يُعتبر أحد أهم ركائز بناء الدولة واستعادة عافيتها، لأنه يمثل التحول من عقلية البقاء في ظروف استثنائية إلى عقلية إعادة البناء والتطوير. الحروب تترك آثاراً عميقة على الشعوب: دمار في البنية التحتية، فقدان الأرواح، تشرد الملايين، وانقسام اجتماعي وسياسي. لكن وسط هذه الجراح، يتولد وعي جديد يعيد صياغة علاقة المواطن بوطنه، وبمستقبله، وبأهمية الوحدة الوطنية.

الحرب لا تترك وراءها فقط الخراب والدمار، بل تصنع أيضاً وعياً جديداً يتشكل في عقول ووجدان الشعوب.

بعد أن يدفع المواطن ثمن الانقسام والنزاع من أمنه واستقراره ولقمة عيشه، يصبح أكثر إدراكاً لقيمة الوطن، وأكثر استعداداً للتمسك بالسلام والبحث عن مستقبل أفضل. وهكذا يتحول الوعي الشعبي بعد الحرب إلى أداة للتغيير الحقيقي وإعادة البناء.

لقد علمتنا الحروب أن الانتصار العسكري لا يعني بالضرورة انتصار الشعوب، بل إن النصر الحقيقي يكمن في استعادة السلام واللحمة الوطنية. بعد الحرب، يدرك الناس أن التعددية ليست خطراً بل فرصة، وأن الحوار هو السبيل لتجاوز الخلافات، وأن الانقسام لا يولّد إلا الخراب.

الوعي الشعبي ما بعد الحرب ليس مجرد ردة فعل، بل هو ولادة جديدة للأمة. هو فرصة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي، وبناء دولة عادلة، وتحصين المجتمع من الانزلاق مجدداً نحو الصراع. فإذا تم استثماره بشكل صحيح، فإن الشعوب الخارجة من أتون الحرب يمكن أن تتحول من ضحية الماضي إلى صانعة للمستقبل.

الحروب تترك ندوباً عميقة في جسد الأوطان، لكنها في ذات الوقت توقظ الشعوب من غفلتها. فبعد أن تتبدد الأوهام وتتكشف الحقائق، ينشأ وعي جديد يوجه الناس نحو قيم مختلفة عن تلك التي سبقت الحرب. هذا الوعي الشعبي يمثل حجر الأساس في إعادة الإعمار، وفي بناء وطن يسوده السلام والعدالة.

بعد النزوح والشتات وفقدان الأمن، يدرك الناس أن الوطن ليس مجرد حدود جغرافية، بل هو البيت الجامع الذي يحميهم ويمنحهم الهوية والانتماء. وهكذا يتولد شعور جماعي بضرورة الحفاظ على وحدة التراب وصون سيادة الدولة.

الحرب علمت الشعوب أن الانقسام هو أخطر سلاح يهددها من الداخل، وأن التعددية إذا لم تُدر بالحكمة والحوار تتحول إلى لعنة. لذا، يظهر وعي جديد بقبول الآخر والبحث عن القواسم المشتركة، بدلاً من التركيز على نقاط الخلاف.

لم يعد السلام خياراً ثانوياً أو شعاراً سياسياً، بل أصبح مطلباً وجودياً لكل مواطن. فالشعب الذي ذاق مرارة الحرب يتطلع إلى استقرار دائم، ويبني سلوكه اليومي على رفض العنف وتعزيز المصالحة.

يتشكل وعي شعبي بضرورة محاسبة من تسببوا في المآسي، ليس بروح الانتقام بل بروح العدالة. هذه الخطوة تعني وضع أسس جديدة لحكم رشيد قائم على القانون والشفافية.

ما بعد الحرب، تتحول مطالب الناس من الخطاب السياسي التقليدي إلى قضايا التنمية، إعادة بناء المدارس والمستشفيات، توفير فرص العمل، وتحريك عجلة الاقتصاد. هذا التحول يعكس وعياً جماعياً بأن الرفاهية هي الحصن الحقيقي ضد عودة الفتن.

الشباب الذين شكلوا طليعة المقاومة والبقاء، يصبحون أكثر وعياً بدورهم في صياغة المستقبل. والمجتمع المدني يبرز كقوة رقابية وضاغطة، تتابع الحكومة وتوجهها نحو أولويات الناس.

إن الوعي الشعبي ما بعد الحرب ليس حدثاً عابراً، بل هو تحول جذري في طريقة التفكير والتصرف. إنه فرصة تاريخية للشعوب لتصحيح المسار، وبناء وطن يقوم على السلام، العدالة، والتنمية. فإذا أحسن استثماره، فإن ما بعد الحرب يمكن أن يكون بداية عصر جديد من النهوض، حيث يتحول الألم إلى أمل، والدمار إلى إعمار، والمعاناة إلى طاقة دافعة نحو مستقبل أفضل. وسودان ما بعد الحرب أقوى وأجمل.

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *