الهويّة العربية الأفريقية في الشعر السوداني (2) محمد مفتاح الفيتوري نموذجاً

435
الفيتوري
Picture of د.الباش أحمد آدم برشم

د.الباش أحمد آدم برشم

أستاذ مساعد في الأدب العربي

العروبة في شعر الفيتوري

• الثقافة العربية الإسلامية غزت السودان منذ أمد ليس بالقصير، وأخذت ملامحها تتضح مع مجيء الفونج وإقامتهم الأواصر الثقافية والفكرية مع العالم العربي المحيط بهم في الشجمال والشرق والغرب. والثورة المهدية لم تكن في حقيقة أمرها سوى امتداد لتلك الروابط الفونجية التي لقحتها الثورات الدينية ذات المنحى التحرري في بلاد الحجاز ومصر وشمال أفريقيا. ثم إن هذا الكيان القومي الأفريقي هو ما نادت به الغالبية العظمى من المثقفين السودانيين منذ مطالع العشرينيات. وإن ظل النضال السوداني عربي الاتجاه حتى أواسط الثلاثينيات، فما ذلك إلا لأن الثقافة العربية بماضيها وتراثها وفي صورة كفاحها المتوثب في أرجاء العالم العربي، كانت هي الغالبة بحكم نضج الحركات الوطنية في العالمين العربي والآسيوي. ويسّر التجاوب مع هذه الحركات القومية انفتاح الحدود السودانية الشمالية على الأقطار المجاورة وانتقال العدوى الفكرية إلى السودان عن طريق الكتب والصحف والمجلات والمتاجرة والهجرة ورحلات الحجيج إلى الأراضي المقدسة وغير ذلك.

والانحياز إلى العروبة يتمثل في صورتين: إحداهما التعبير عن أحداث بعض الدول العربية، والأخرى تأكيد عروبة السودان والدعوة للاهتمام باللغة العربية. ولقد تناثر ذكر العروبة وملحقاتها في الشعر السوداني بغزارة ثرّة، وتغنّى بها جميع الشعراء بلا استثناء وتفاوتوا في الكم والكيف، وحتى الذين جعلوا من العرق الأفريقي محراباً، لم ينسوا الجينات العربية التي تسري في دمائهم. فالشاعر محمد مفتاح الفيتوري أراد أن يكون محامياً لقارته السوداء، وناطقاً باسم الأفارقة العرب الذين يشكلون ثلثي السكان في الوطن العربي، فعبّر عن ذلك أحسن تعبير في دواوينه الثلاثة الأُول (أغاني أفريقيا) و(عاشق من أفريقيا) و(اذكريني يا أفريقيا). «وشاعرنا تتقاسمه ثلاث جنسيات عربية، فهو سوداني، ليبي الأب، مصري الأم. ولد في الجنينة عاصمة دار مساليت الواقعة على حدود السودان الغربية، والطريف في الأمر أن شاعرنا يجهل تاريخ ميلاده. والده هو الشيخ مفتاح رجب الشيخ الفيتوري، من قبيلة الفواتير الليبية، ووالدته الحاجة عزيزة علي سعيد من صعيد مصر من قبيلة الجهمة». وعاش الشاعر متنقلاً بين أقطار الوطن العربي، فهو شاعر الوطن العربي كله، تغنّى لكل أقطاره وانفعل بكل أحداثه وثوراته وانتصاراته وما يعتري أي قطر من أقطاره من خطر أو عدوان، وما تعبق به الأرض من أمجاد، لذلك رأيناه تغنّى لفلسطين، وندّد بالاحتلال الصهيوني لبيت المقدس في معادل شعري صارخ ورائع يقول:

قد سقطَ القدسُ

وغاصتْ حافرُ القاتلِ في دمائنا المحرّمة

وسقطَ البراقُ والوحي

فهل عرفتِ، أو هل تعرفين؟

متى ستسقطين

يا مكّة المكرمة! 

أو قولــــــــــه:

شوارعُ القدسِ الإلهية

تصفّرُ في أرجائها الرّيح الرّمادية

وعطرُ راشيل اليهودية

وتستحمُّ الأرضُ بالدّماء

حيثُ مشى الأنبياء

وتغنّى للجزائر وكفاحها، وجعل من جميلة الفتاة الحرة رمزاً للوطنية الخالدة، فكتب (إلى بن بيلا ورفاقه) و(رسالة إلى جميلة) التي يقول فيها:

ما أجملَ الحياةَ يا جميلة لولا جنون الطّغاة

وقهقهات السّجون

لأنّ ظالماً يحب الحياة

ويكره الآخرين

لأنّ سيداً يحبُّ العبيد ويكره الثّائرين

لأن سجانَك يا جميلة

أيتها النّار الجزائرية

كل جنود الإمبراطورية

ولأن السودان هو موطن الشاعر وعاش فيه القليل من سنوات طفولته، وطالت غربته إلى أن توفّاه الله خارج الوطن؛ لكنه يستشعره دائماً في كيانه ودمه، فنظم قصائده: (رسالة إلى الخرطوم)، و(الحصاد الأفريقي)، و(حصاد شعب). وكلّها في مجد السودان وانتصاره مع كل شعوب أفريقيا المكافحة. وفي قصيدته (أغنية إلى السودان) يصور الفيتوري انتفاضة المارد، وتحطيمه قيود السجن، يقول:

ومثلما يسحقُ الماردُ السّجينُ قيوده ..

ومثلما تنفضُ أغلالَها الرّياحُ الشّديدة

تحرّكت ذات يوم

أفريقيا الموعودة

وقام في قلبها السّودانُ يُعلنُ عيده

باسم جميعِ الشّعوب

المسجونة المصفودة

وغنّى الشاعر للبنان محباً ومكبراً تارة، ومشفقاً ومتعاطفاً معها فيما تتعرض له من غارات العدو الإسرائيلي تارة أخرى. وفي حضرة الأخطل الصغير أنشد الفيتوري أغنية حب وإكبار للبنان الشعر والعبقرية والخلد والسلام، يقول فيها:

أنت في لبنان 

والشّعرُ له في ربا لبنان عرشٌ ومقام

شاده الأخطلُ قصراً عالياً 

يزلقُ الضّوء عليه والغمام

وتبيتُ الشّمسُ في ذروتِه 

كلّما داعبَ عينيها المنام

أنت في لبنان، والخُلدُ هنا 

والرّجالُ العبقريون أقاموا

حملوا الكونَ على أكتافهم 

ورعوا غربتَه وهو غلام

غرسوا الحبَّ 

فلّما أثمر الحبُّ 

أهدوه إلى النّاس وهاموا

غرباء ومغنين 

وأحلى أغانيهم على الأرضِ السّلام

وغنّى الفيتوري لسوريا وترنم بتاريخ دمشق مجسداً امتزاج إحساسه بالزمان والمكان، يقول:

دمشقُ يا حزني

وأنت مدينةُ الفرحِ التي أغفوا على أسوارها

وأغوصُ في أحشائها أرضاً وأزمنة

وتصلبني طوابيرُ الطّغاةِ على مداخلِها

وينبتُ في خرائبِ عصرِهم وجهي وأيامي

دمشقُ أنت

لم تكن السماءُ عباءةً منقوشةً بالعاجِ والياقوت

كانت ثمة السُّحب القديمة

والطّلاسم في تعاريج المرافئ

… ثم أضاءَ برقُك في الصّخور

ففجرتْ ألوانها، وامتدت الرؤيا على زمني

وعينيّ المهاجرتين

إني كلمةٌ وحدي

وتلك حجارةُ التّاريخِ، والطّيرُ المحنّطُ في المعاطف

وهفا قلب الشاعر نحو العراق الشقيق في مناجاة وقف عليها اسم ديوانه: (يأتي العاشقون إليك يا بغداد) ذلك الذي أصدره بالقاهرة سنة 1992م، وفيه ترتفع حرارة الشعور، وتتصاعد النغمة العربية فتتجلى الرؤية عن قصيدة الديوان، يقول: 

أقول أنا الذي لولا شموخُك أنت يا بغداد

لولا وجهُك العربي

لولا سيفُك العربي

يغسلُ بالضّياءِ عيونهم 

لم يتركوا لي ما أقول

وبطول تاريخه الفني غنّى لبلاده، لحرية ليبيا في ثورة عمر المختار، وفي قصيدة (الهياكل) بارك انبلاج ثورة الفاتح من سبتمبر وتمرد على الحكم الرجعي الذي ساد ليبيا، يقول:

لكنّما الهياكلُ الخرساءُ لم تجب

وبرقتْ مثل النّجومِ الأوسمة

على الصّدورِ المظلمة

وبرق الذّهب، وأجهشَ التّعب

وقهقه العذابُ والغضب

عارٌ على الرّجالِ، عارٌ على الأجيال

عارٌ على كلِّ البشر

أن تُظلمي يا ليبيا

وثمّ إنسانٌ على القمر!

وفجأة توهّج الحزنُ الذي عاش سنينا

فإذا الحزنُ حريق ..

يركضُ في مضيق

يلتهمُ الأوثان

والموتى الذّين نصبوا الأوثان في الطّريق

ونلمح تعاطف الشاعر المبكر مع مصر وعروبتها من ديوانه الأول (أغاني أفريقيا)، يقول في قصيدته (عندما يتكلم الشعب) :

بالأمسِ .. والأمس مازال في دمائي صداه

دقّت نواقيسُ مصر .. دقّت بقلب الحياه

تعلن باسم الضّحايا، باسم الجياع العراه

إنّ الإرادة للشّعب، لا للملوك الطّغاه

ورغم ما قد يرين على الواقع العربي العام من كدرة، فإن الوطن العربي الذي غنّى له الشاعر في كل قطر من أقطاره، ووقف على أحداثه، مندداً بالاحتلال والطغيان؛ فإن هذا الوطن يتراءى أمام الفيتوري عملاقاً كبيراً، هو محبوب الشاعر، يرتل من أجله أبياته العذاب رصينة كجلال الرؤية، عاطفية، كالعاشق الشاعر أبي القاسم الشابي حين يرتل أحلى كلماته على أذني معشوقته في قصيدته (صلوات في هيكل الحب)، يقول الفيتوري في قصيدته (صلوات للوطن) :

أيها الكُلُّ .. والكمالُ .. ومجدُ الله .. والمعجزاتُ .. والمستحيل

أترى عاشقيك كيف يذيب الوجدُ أجسادهم وكيف تحول

كيف يستيقظُ الشّهيدُ من الموت كأن لم يمت .. ويحيا القتيل

كيف تندى أرضٌ .. وتيبسُ أرضٌ .. ويضحّي جيل ويولد جيل

 

شارك المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *