يوسف عبدالرضي
شاعر وكاتب صحفي
• في كل مجتمع من المجتمعات، هناك عادات وتقاليد تشكل النسيج الإنساني الذي يربط الناس ببعضهم.
وفي السودان، يبرز «النفير» كواحد من أصدق صور التكافل والتعاون الاجتماعي، عادةٌ قديمة ضاربة الجذور في عمق الريف السوداني، حملت في جوهرها روح المروءة والإيثار، وعبّرت عن وحدة الناس وتماسكهم في مواجهة متطلبات الحياة ومواسمها المختلفة.
منذ الطفولة، كان مشهد النفير بالنسبة لنا طقسًا مهيبًا ومبهجًا في آنٍ واحد.
كنا نرى الحركة المتزايدة داخل البيوت: النساء يجهزن الطعام، والأمهات يوصين الأبناء بالسرعة في اللحاق بالناس، والرجال يشحذون أدوات العمل.
حينها كنت أعلم أن هناك «نفيرًا» اليوم، وأن القرية كلها في طريقها لمعاونة أحد أفرادها في زرعه أو حصاده أو بناء بيته الجديد.
كلمة نفير في الوجدان السوداني تعني الفزعة، أي المسارعة لنصرة أو مساعدة أحد دون انتظار مقابل.
وغالبًا ما يكون النفير في مواسم الزراعة، خاصة في الخريف، عندما تنبت الحشائش في المزارع وتحتاج الأرض إلى تنظيف.
حينها، لا يتردد الناس، بل يخرجون جميعًا: الصغار والكبار، الشيوخ والشباب، كل يحمل معوله أو منجله، والعمل يتم في جوٍّ من المرح والأنس والضحك، حيث تمتزج الجهود بالودّ.
وفي نهاية اليوم، يجتمع الجميع حول الطعام الذي أعدته النساء خصيصًا لهذه المناسبة، في مشهد إنساني لا يمكن أن يُنسى.
لكن النفير لا يقتصر على الزراعة فحسب؛ بل يمتد ليشمل البناء والأعراس والأتراح.
ففي نفير بيت العريس مثلًا، يتدافع أهل القرية جميعًا لبناء بيت جديد للعروسين.
لا أحد يسأل: من الذي سيشتري الطوب؟ ومن الذي سيحمل الماء؟
الكل يعمل بروح واحدة، ويتسابق في البذل. فالفرح في القرية ليس فرح شخصٍ بعينه، بل فرح للجميع، كما أن الحزن لا يكون حزن بيت واحد، بل حزن القرية بأكملها.
هذا التلاحم الاجتماعي هو الذي ميّز القرى السودانية، وحفظ تماسكها رغم تقلبات الزمان.
وللنساء في النفير دور لا يقل عن الرجال.
فبينما يعمل الرجال في الحقول أو مواقع البناء، تتجمع النسوة في البيوت لتحضير الطعام، يعددن العصيدة والنعيمية والقراصة والملاح، ويحملنها في صوانٍ كبيرة إلى موقع العمل، وسط زغاريد وضحكات تعبّر عن روح المشاركة والفرح بالعطاء.
ولعل هذا الجانب النسوي في النفير هو ما جعل التكافل الاجتماعي السوداني أكثر عمقًا، إذ جمع بين الجهد البدني والعطاء الإنساني في آنٍ واحد.
النفير أيضًا لا يقتصر على المناسبات السعيدة.
ففي الأتراح، نرى صورًا مدهشة من التضامن؛ حيث يسارع الناس في القرية أو الحي لمساندة أهل الفقيد، في تجهيز المكان والطعام وتخفيف الأعباء، حتى لا يشعر أهل المصاب بالوحدة أو العجز.
وهنا يتجلى المعنى الأعمق للنفير: أن تكون مع الآخر في لحظاته الصعبة قبل لحظاته السعيدة.
لقد كان النفير في جوهره مدرسة للتربية الاجتماعية.
فهو يزرع في النفوس روح التعاون، ويغرس قيم العمل الجماعي والإيثار.
كان الأطفال يتعلمون من خلاله احترام الكبير، ومساعدة الضعيف، والوقوف مع الجماعة.
كما كان النفير يحدّ من الفوارق الطبقية، إذ لا مكان فيه لغني أو فقير؛ الجميع يعمل كتفًا إلى كتف، والجهد هو المعيار الوحيد.
لكن مع تغير أنماط الحياة، وتزايد مشاغل الناس، وتمدّد المدينة في القرى، بدأت هذه العادة العريقة تتراجع شيئًا فشيئًا.
حلّت محلها ثقافة الفردية والاعتماد على الأيدي العاملة المأجورة، وغابت روح «الفزعة» التي كانت تجمع الناس في السراء والضراء.
غير أن بعض القرى ما زالت تحافظ على هذه العادة الجميلة، وتنظم «نفرة» جماعية في مواسم الزراعة أو عند بناء المدارس والمساجد، وكأنها تقول: ما زال فينا الخير باقيًا، وما زالت جذور التكافل تنبض بالحياة.
النفير ليس مجرد عادة تراثية، بل هو فلسفة اجتماعية قائمة على التعاون والتكافل والتراحم.
وهو يعبّر عن جوهر الشخصية السودانية، التي تؤمن بأن الجماعة أقوى من الفرد، وأن السند الحقيقي في الحياة ليس المال، بل الإنسان الذي يقف إلى جوارك وقت الحاجة.
إن إعادة إحياء ثقافة النفير اليوم ليست مجرد دعوة للعودة إلى الماضي، بل هي حاجة معاصرة في زمنٍ عزّ فيه التعاون وضعفت فيه العلاقات الإنسانية.
في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها السودان، يمكن للنفير أن يكون مدخلاً عمليًا لإحياء روح الجماعة، وبناء نموذج جديد من العمل التطوعي الشعبي، يعيد للمجتمع تماسكه، وللناس ثقتهم ببعضهم.
لقد أثبت النفير عبر التاريخ أن الخير في الناس باقٍ، وأن روح المساعدة لا تموت مهما تغيّرت الظروف.
وربما نحتاج اليوم أن نعيد النظر في هذه العادة القديمة، لا باعتبارها تراثًا نحتفي به فحسب، بل باعتبارها قيمة إنسانية تصلح لكل زمان ومكان، تؤكد أن التعاون هو سر الحياة، وأن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا بغيره.
شارك المقال

من صفات الإنسانية التعاون والمشاركة وهي من أنبل الصفات التي تميز بها انسان السودان أعاد الله السودانيين لحضن الوطن وادام انسانيتهم وحبهم للعطا والعون وكان الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.